لماذا تدعم إسرائيل الانقلاب في تونس؟

29 يوليو 2021
+ الخط -

لعل أول إشارة حول الكذب المرضي للرئيس التونسي، قيس سعيد، بعد انتخابه، كانت في رفضه منح الجنسية التونسية لأرملة الشهيد محمد الزواري الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي، بعد اكتشاف دوره في تصنيع الطائرات المسيّرة التي استخدمتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس). كانت الأرملة تستحق الجنسية بناء على القانون التونسي، وفوق ذلك كان منحها الجنسية سيصير ردّاً على جريمة الموساد البشعة على الأرض التونسية، والذي لم يلق ما يستحق من إدانة عربية ولا دولية. لم يكتف سعيّد بهذا، بل منح الجنسية، في الوقت نفسه، لمشبوهين فلسطينيين مرتبطين بالقيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، والمعروف بعلاقاته الوثيقة بأجهزة الأمن الصهيونية. دافع أنصار سعيّد وقتها عن قراراته بأنه مختطفٌ من مستشارته، نادية عكاشة، المرتبطة بالفرنسيين والأجهزة الغربية، وأنه لا يعلم عن ملفاتٍ كثيرة. تلك القصة كانت كافية للتعامل معه باعتباره مريضاً بالكذب، وأن استخدام شعار "التطبيع خيانة عظمى" لم يكن أكثر من خداعٍ للشعب التونسي.

في مقارنةٍ مع محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السابق، خالد مشعل، الفاشلة، أجبر الملك حسين، المؤمن بالسلام والتطبيع، الموساد، على تقديم الترياق، وأفرج عن مؤسس "حماس" وزعيمها أحمد ياسين. وقال إن مستقبل عملية السلام مرتبط بحياة المواطن الأردني خالد مشعل. باع سعيّد بثمن بخس دم مواطن تونسي لم يكن المسؤول الأول في حركة حماس، واستكثر الجنسية على زوجته.

جاءت الاتفاقات الإبراهيمية لتكشف مزيداً من الكذب المرضي، فالجزائر، هاجم رئيسُها عبد المجيد تبون، وهو لم يقل في برنامجه الانتخابي التطبيع خيانةً عظمى، الهرولة نحو التطبيع، مع أن علاقات بلاده بالإمارات جيدة، ليكتفي قيس سعيّد باستدعاء سفير فلسطين، وإلقاء محاضرة على مسامعه واقفاً عن مضارّ التطبيع، ومن دون أن ينبس ببنت شفةٍ عن التحالف التطبيعي الاستراتيجي بين الإمارات وإسرائيل. ذلك وغيره لا يعني أن الزعيم الشعبوي كان على علاقة سرّية بإسرائيل، لكنه يكشف الشخصية النرجسية القادرة على الكذب والخداع بشكلٍ يصعب توقعه.

ليست تونس دولة مواجهة، و"القنبلة النووية" التي تملكها تونس وتخشاها إسرائيل هي الديمقراطية. المقولة الصهيونية التاريخية السائدة إن المشروع الصهيوني هو "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، وإن العروبة والديمقراطية لا تجتمعان. في العالم الإسلامي، نجد أكبر بلد فيه إندونيسيا يتمتع بتحوّل ديمقراطي منذ 1997، وتركيا كذلك، وباكستان وبنغلادش بدرجة أقل. في العالم العربي كان النموذج الوحيد تونس. اليوم تمكّن سعيّد من تحقيق الحلم الإسرائيلي بإجهاض أول تحوّل ديمقراطي عربي، أو تهديدِه بشكل جدّي.

لك أن تتخيّل حجم الكذب في موضوع "التطبيع خيانة عظمى"، عندما زار في القاهرة قبر أنور السادات أول زعيم عربي طبّع مع العدو، وهي خطوةٌ لم يسبقه إليها حتى الزعماء الذين وقّعوا معاهدات سلام مع إسرائيل، وهذا ما ظهر، وما بطن أخطر، فما انكشف بعد انقلاب عبد الفتاح البرهان على ثورة الشعب السوداني من علاقاتٍ مع الصهاينة يجعل المراقب لا يستبعد أن ترتيبا لأمور الانقلاب في تونس قد تمّ مع الصهاينة.

محزنٌ ما حصل، والمحزن أكثر بعد هذا كله أن تجد في تونس من لا يزال يصدّق أكاذيب قيس سعيد، مع أن القضاء التونسي أثبت على الأقل كذبتين له، تتعلقان بمحاولتي الاغتيال اللتين تعرّض لهما، وثبت أنهما محض اختلاق. ولعل أصدق وصفٍ له جاء على لسان رئيس حزب العمال (الشيوعي)، حمّة الهمامي، عندما اتهمه بـ"الكذب" على الشعب عبر إعلانه تفعيل الفصل 80 من الدستور، لكن قراراته خرقت الفصل المذكور، وأراد من خلالها تجميع كل السلطات في يده، ووضع التونسيين في السجون، بل أصبح يهدّد كل من يتطاول على شخصه. وعاد إلى تاريخه المبني على الكذب، فهو "لم يخض طوال حياته أي نضال من أجل الديمقراطية والحرية، بل كان من بين مؤيدي الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وسانده في تحوير (تعديل) الدستور لصالحه سنة 2002". وأضاف: "من يريد معرفة حقيقة قيس سعيد، فلينظر إلى جماعاته الناشطة على فيسبوك، وهي عصاباتٌ فاشيةٌ تنكّل بكل من ينتقده من الصحافيين أو السياسيين، ويدعون إلى حل الأحزاب وتكميم الأفواه".

لا يحتاج الصهاينة مواصفاتٍ أكثر من هذه، ولا يضرّهم حديثه عن الخيانة العظمى، طالما أنه اعتبر الاستعمار الفرنسي حمايةً وزار قبر السادات، وقبل انقلابه، كان آخر اتصال رسمي له مع ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، راعي الاتفاقيات الإبراهيمية والثورات المضادّة. مع ذلك، يبقى الأمل في تونس التي تخلصت من ديكتاتور أكثر تجذّراً منه وأصدق منه.

83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة