لبنان ومأسسة الفراغ
لا يبدو أن الفراغ الرئاسي في لبنان في طريقه إلى الامتلاء قريباً، بل على العكس، يبدو أن فراغاً جديداً في طريقه إلى التشكّل خلال الشهر المقبل مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والاتفاق على عدم التحديد له في ظل الملاحقة القضائية الدولية التي يتعرّض إليها بتهم الفساد وتبييض الأموال، وهو ما حرّك الإنتربول الذي أصدر مذكرة لاعتقاله. رغم ذلك، لا يبدو أن المسؤولين اللبنانيين في وارد تسليم رياض سلامة للمحاكمة، خصوصاً أن من المؤكّد أن الرجل لم يكن يعمل وحده، وإذا كانت هناك شبهات فساد ضده، فإنها تطاول غالبية المتنفذين في البلاد، وهو ما توضحه ردّات الفعل التي صدرت بعد الاتهامات الفرنسية والألمانية ومذكرة الإنتربول.
الأزمة الآن ستكون في خليفة رياض سلامة في بلد يعيش وضعاً اقتصادياً كارثياً وعملة منهارة. فالعرف اللبناني في التعيين يكون عبر اتفاق رئاسات البلاد الثلاث، الجمهورية والبرلمان والحكومة، الموزّعة بين الطوائف الأساسية، على اسم بديل، وهو دائماً كان أمراً معقداً عند فراغ أي من وظائف الدرجة الأولى في البلاد. إلا أنه اليوم أكثر تعقيداً مع بقاء كرسي الرئاسة، والذي يمثل المسيحيين، خالياً، فيما رئاسة الحكومة هي في وضع تصريف أعمال، بعد استقالة الحكومة قبل أكثر من عام على ضوء الانتخابات النيابية، والفشل حتى اليوم في تسمية بديل، وهو أمر مرتبط أيضاً بفراغ منصب الرئيس الذي كان من المفترض أن يتولى الاستشارات النيابية لتسمية رئيس حكومة.
الفراغ متشعّب في البلاد، ومع ذلك فإن المؤشّر على الخروج منه لا يظهر في الأفق في ظل الخلاف القائم حاليا على اسم الرئيس، والذي لا يبدو في طريقه للحل. الخلاف قائم على اسمين أساسيين، الأول زعيم تنظيم "المردة" سليمان فرنجية المدعوم بشكل أساسي من حزب الله ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي، والثاني وزير الاقتصاد السابق، والمسؤول في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، المدعوم من القوات والكتائب والأطراف المعارضة لحزب الله، فيما لم يحسم التيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل موقفه بشكل نهائي، مع ميله إلى الموافقة على أزعور لقطع الطريق على وصول فرنجية.
ورغم أن خيار أزعور قد يكون منطقياً، نظراً إلى الوضع الاقتصادي المتردّي في لبنان، إضافة إلى ما يمثله الرجل على المستوى الاقتصادي الدولي، والذي قد يمنح لبنان القليل من الأفضلية لدى مؤسّسات النقد الدولية، وهو ما يحتاجه البلد للخروج من أزمته. غير أن هذا لا يهم الطبقة السياسية المتحكمة في البلاد، والمستفيدة إلى حد كبير من هذه الأزمة وهذا الفراغ الذي يبدو أن اللبنانيين يتعايشون معه بامتياز.
أي زائر للبلد لا يلحظ أي انعكاس للفراغ السياسي الكبير على الحياة اليومية، خصوصاً أن اللبنانيين اعتادوا منذ زمن بعيد ملء فراغ الدولة على الصعد الخدماتية، من ماء وكهرباء واتصالات، وهو أمر لا يختلف اليوم. إضافة إلى ذلك، بات الشارع فاقداً الأمل في إمكان الخروج من الأزمة، بغضّ النظر عن الشخصية التي قد تتولى رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة، أو حتى حاكمية المصرف المركزي. التعايش مع الفراغ ومع الواقع المنهار هو سمة الحياة اليومية اللبنانية حالياً، الأمر الذي يدركه المسؤولون، وعلى أساسه يتصرفون وفقاً للمصالح الحزبية والطائفية، المرتبطة بالضرورة بالمكاسب الاقتصادية الفئوية.
الفراغ في لبنان اليوم بات الوضع الطبيعي للحياة، وأي شيء غيره استثناء. اللبنانيون عاشوا الفراغ الرئاسي طويلاً قبل وصول ميشال عون إلى السلطة، وعاشوا الفراغ الحكومي أيضاً في مراحل متعدّدة، واختبروا غياب الدولة كلياً عن مشهد الحياة اليومية، وها هم اليوم على موعدٍ مع فراغ جديد، لن يختلف عن عما سبقه، فالحياة تمضي وكأن شيئاً لم يكن.