لبنان: في وداع 1701
بدت الغارتان الإسرائيليتان على بلدة المحمودية في قضاء جزّين، جنوبي لبنان، فجر أول من أمس الخميس، بمثابة مؤشّر على انتهاء حقبة وبدء أخرى، فمنذ عدوان تموز 2006 على لبنان، استخدم الطيران الحربي الإسرائيلي الأجواء اللبنانية في حالتين: قصف مواقع للنظام السوري وحزب الله والإيرانيين في سورية، وإجراء عمليات استطلاع "عادية". وأوحى الاحتلال بتطبيقه الحدّ الأدنى من قرار مجلس الأمن 1701 الذي أوقف الحرب في 2006. ولم يكتفِ الإسرائيلي بذلك، بل دائماً ما كان يُرسل توضيحاتٍ، بصورةٍ غير مباشرة، إلى حزب الله، ومنها ما حدث في 24 أغسطس/ آب 2019. فقد أغار حينها الطيران الإسرائيلي على منطقة عقربا، جنوبي شرق دمشق. وذكر أنه "أحبط عملية خطّط لتنفيذها فيلق القدس الإيراني ومليشيات ضد أهداف إسرائيلية من سورية". وأدّت الغارات إلى مقتل عنصرين من حزب الله، فتواصل الإسرائيليون مع أطراف ثالثة (الروس على الأرجح) لإيصال رسالة إلى الحزب مفادها بأنهم "لم يكونوا يقصدونه". وأيضاً في 15 إبريل/ نيسان 2020، استهدف الإسرائيليون سيارة تنقل عناصر من حزب الله في معبر جديدة يابوس في سورية،وقد وجّهوا إنذاراً أولياً، سمح للعناصر بإخلاء السيارة، قبل قصفها.
في تلك المحطات، بدا أن الإسرائيليين والحزب يعملون على إبعاد الحرب المباشرة، وفقاً لأولوياتهم في الشرق الأوسط، ولكن بصورة أقرب إلى فرض شروطٍ متبادل. وهو ما كاد يؤدّي إلى اندلاع حرب مرّات عدة، خصوصاً بعد اغتيال جهاد مغنية، نجل القيادي في الحزب، عماد مغنية، في عام 2015، فضلاً عن سمير القنطار ومصطفى بدر الدين وغيرهما. توترت الأجواء في حينه، غير أنها لم تسمح بقيام حرب واسعة، بفعل تدخل الأطراف الدولية لمنع تمدّد الحرب السورية بشكل واسع. كذلك، الصواريخ التي كانت تُطلق في السنوات الماضية من لبنان إلى المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، وتُوَاجَه برد مدفعي إسرائيلي، كان ينتهي مفعولها مع تدخل "قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان" (يونيفيل)، لمنع تفاقمها.
بدءاً من يوم الخميس الماضي، تغيّر الوضع. الإسرائيليون يشنّون غارات هي الأولى من نوعها على لبنان منذ 15 عاماً، لكنهم لا يتهمون حزب الله بقصف مواقعهم. يتهم جيش الاحتلال تنظيماتٍ فلسطينيةً، لم يسمّها، بإطلاق الصواريخ، على الرغم من إدراكه أنه لا يُمكن التحرّك في جنوب لبنان من دون معرفة حزب الله. في المقابل، يكون الإسرائيلي، في اتهامه الفلسطينيين بذلك، قد أوحى بعدم جدوى "يونيفيل"، التي تمّ تعزيزها بعد عدوان 2006، في منع إطلاق الصواريخ أو منع حالات التسلل من لبنان إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وحتى في غياب القدرة على فرض الحلّ العسكري.
ماذا يعني هذا التغيير؟ يعني أمرين لا ثالث لهما: اقتناع الإسرائيليين بفقدان الدولة اللبنانية قدرتها على الإمساك بالأرض، فضلاً عن ضعف "يونيفيل" حيال منع إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية. منع حزب الله، وفقاً للإسرائيليين، من استغلال التفكك والتحلّل في الدولة اللبنانية، وتَحوُّل المناطق الخاضعة لنفوذه إلى ساحة قتال دائم معهم. في الحالتين، كسر الإسرائيليون قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عام 2006، وينتظرون نتائجها عسكرياً وسياسياً. وستظهر تأثيرات هذا التطور تباعاً، خصوصاً مع تزايد وتيرة التحليق الكثيف لطيران الاحتلال، فضلاً عن استمرار استهداف مواقع محدّدة، قد لا تكون بالضرورة لحزب الله في البداية، لكنها ستصل، في النهاية، إلى الحزب، سواء تحت اسم "الصواريخ الدقيقة" أو "مستودعات الأسلحة". هنا، وفي ظلّ واقع سياسي ـ اجتماعي ـ اقتصادي رديء، يبقى مثل هذا التطور العسكري خطوةً إضافيةً في المجهول بالنسبة للبنانيين، خصوصاً أن هرولتهم اليومية لتأمين الخبز والماء والدواء تبقى الأولوية المُطلقة لهم، فالشخص الجائع هو عدوّ أكبر قضية، وهو ما يعرفه جيداً كل من أمسك بالسلطة في الشرق الأوسط.