لبنان: غرق "المنقذين"
لم يمض كثير من الوقت، قبل اكتشاف أن الحكومة التي شُكّلت في لبنان، برئاسة نجيب ميقاتي، وقُدّمت أنها حكومة "إنقاذية" من الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردّية في البلاد، باتت بحاجة فعلياً إلى إنقاذ، بعدما غرقت في أطنانٍ من التجاذبات السياسية، في مقدّمها قضية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، والذي بات يهدّد بتفجير البلاد أمنياً، وهو ما تجلى في الاشتباكات الدامية التي شهدتها بيروت يوم الخميس الماضي، والتي سيكون لها كثير من التداعيات السياسية والاقتصادية داخلياً وخارجياً.
كذلك لم تحتج هذه الحكومة إلى جهدٍ كثير لإخفاء طابعها السياسي، بعدما كان من المفروض أن تكون حكومة تكنوقراطية، بحسب الشروط الدولية التي وضعها المانحون لمساعدة لبنان على التعافي من أزمته الاقتصادية الخانقة، فالسجالات التي شهدتها جلسات الحكومة الأخيرة في ما يخص تحقيقات القاضي طارق بيطار، ومذكرات التوقيف التي أصدرها، كشفت أن هذه الحكومة وتركيبتها أبعد ما تكون عن التكنوقراط، فأقنعة "الخبرات" سرعان ما سقطت لتظهر الوجوه الحزبية الفجّة للوزراء الموزعين على طاولة مجلس الوزراء.
هذه الحكومة اليوم، وبعد الأحداث الأمنية الخطرة التي وقعت في بيروت، وما تحمله من نذر انفجار الوضع الأمني في البلاد، باتت في حكم المجمّدة أعمالها، وخصوصاً أن الخلاف حول تنحية قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت لا يمكن تجاوزه بتسويات سياسية، بعدما وضع حزب الله (الحاكم الفعلي للبنان) هذا الأمر شرطاً لاستكمال عمل الحكومة، وإلا التعطيل. إذ بات من الواضح أن هذا الحزب يضع تنحية القاضي بيطار على رأس أولوياته، وهو ما لا يكتمه الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في كل الخطابات التي يطلّ بها على أنصاره، فاختفت إسرائيل ومقاومتها من هذه الخطابات ليحل محلها بيطار ومحاولات شيطنته. وهذا أيضاً ما تقوم به وسائل الإعلام التي تدور في فلك حزب الله. الحزب ومعه حركة أمل أخذا الحملة إلى مرحلة أعلى باستخدام الشارع للضغط باتجاه تنحية بيطار من منصبه، وهو ما قاد لاحقاً إلى المواجهات الدامية، وما قد يكون لها من تداعياتٍ أمنيةٍ على المديين، القريب والبعيد.
هذا الإصرار من حزب الله على إزاحة قاضي التحقيق يثير شكوكا كثيرة حول مخاوف الحزب مما قد تحمله نتائج التحقيق في حال مضيّه في طريقه، وخصوصاً أنه في الأيام الأولى التي تلت الانفجار في 4 أغسطس/ آب 2020، دارت شبهات كثيرة حول مسؤولية الحزب عن شحنة نترات الأمونيوم، أو استخدامها لاحقاً عبر نقلها إلى سورية. هذا الإصرار على هذا الهدف، واستخدام الوسائل كافة لتحقيقه، تنطبق عليه مقولة "كاد المريب أن يقول خذوني".
في النهاية، وفي ظل سلطة الحزب في البلد، فإنه سيحقق هدفه، وعاجلاً أو آجلاً، ستتم تنحية القاضي بيطار، أو أن يتنحّى من تلقاء نفسه. لكن ذلك لن يمرّ مرور الكرام على الحكومة "الإنقاذية" الساعية إلى مفاوضاتٍ مع البنك الدولي وصندوق النقد، وأمامها شروط معقدة من الدول المانحة، في مقدمها "مكافحة الفساد". فكيف بإمكان هذه الحكومة، ورئيسها، مخاطبة المجتمع الدولي، وكان أول عمل قامت به هذه الحكومة، أو غضت الطرف عنه وساهم جزء منها فيه، هو عرقلة التحقيقات في انفجار المرفأ والتدخل في عمل القضاء.
يدرك رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، أن ما يحدث في ما يخص قاضي التحقيق يعقّد مهامه، ويقرّبها من الاستحالة. وأكثر من ذلك، هذا الأمر لن يوقف المفاوضات مع المانحين الدوليين فحسب، بل يهدّد بفرض عقوبات إضافية على لبنان، ليغرقه وحكومته بمزيد من الأزمات الاقتصادية، وهو ما لوّح به صراحة الاتحاد الأوروبي.
في المحصلة، غرقت هذه الحكومة "الإنقاذية" في المحاصصات والحسابات الطائفية وسطوة حزب الله، قبل إبحارها. وقد لا يطول الوقت قبل أن تطاول التنحية أو التنحّي رئيسها شخصياً.