لبنان .. خطابان وفراغ
لم تعد الحياة في لبنان تعتمد على "الرؤية الثاقبة" لرجالات دولةٍ، ولا على مبادرات فردية أو جماعية لأطرافٍ إنقاذية محلية. بتنا في مرحلةٍ متناسلةٍ من ردود فعل لن تنتهي سوى بفعل "الارتطام النهائي"، المصطلح الدارج حالياً في بيروت لشرح كارثية المرحلة اللبنانية المقبلة. وفي خضمّ ذلك، هناك خطابان شبه مبتذليْن، لا يقتربان من اهتمامات الناس، ولا يفهمان حقيقة الوضع، على الرغم من أن أبطالهما في قلب الحدث اللبناني.
الأول، هو الخطاب الكلاسيكي للسلطة الحاكمة، التي تختبئ خلف الشعارات البرّاقة، للتعمية على حقيقة التدهور المعيشي والصحّي في لبنان. يرتكز هذا الخطاب على مبدأ أن "عقد الاجتماعات وأخذ الصور كافٍ لحلّ الأزمة"، من دون القيام بحملاتٍ جذريّة، لجهة كسر التهريب إلى خارج البلاد، إلى سورية وغيرها، ولا لجهة مداهمة مستودعات الأدوية والطعام ومخازن النفط، ولا حتى محاربة مسبّبي الفساد والهدر. مثل هذه الاجتماعات تكرّس نكراناً جماعياً للسلطة، وترسّخ ضعفها حيال حماية الناس. لكنها، في المقابل، تمنع عليهم حقهم الطبيعي بالاحتجاج، أي "موتوا بصمت".
الثاني، هو الخطاب المثالي الذي يطلب من الناس الصبر والتحمّل حتى موعد الانتخابات النيابية، المقرّرة مبدئياً في ربيع 2022. لا يريد أنصار هذا الخطاب الانتباه إلى أن الناس لا يمكنهم الصمود حتى ذلك الوقت، في ظلّ نقص الأدوية خصوصاً، ولا يمكنهم التنقل إلى المراكز الانتخابية مع ارتفاع أسعار الوقود بجنون. ربما يصلح خطاب الانتخابات في بلادٍ متقدّمة، لا في بلد كلبنان. الأهم أن إجراء الانتخابات في موعدها بات مشكوكاً فيه، فأحزاب السلطة لن تألو جهداً في الحفاظ على نفوذها، مستندةً إلى سابقة تأجيل الانتخابات النيابية خمس سنوات من عام 2013 إلى عام 2018. وتحاول تحفيز أنصارها بخطاباتٍ لم تعد تلقى صدىً عند الناس. الأحزاب اللبنانية باتت جامدة، وجمادها سيقتلها، على الرغم من أن لا بديل فعلياً متاحاً الآن، ولا تغيير جذرياً معروفاً سيحصل الآن.
بالتالي، الفراغ الناشئ عن ابتعاد الخطابين عن الناس سيدفع إلى استيلاد خطاب جديد مصنوع من تفاصيل الأزمة الاقتصادية ومن عشوائية سياسية متفاقمة، ولن تتمكّن صناديق الإعاشة الحزبية من قمعه، لأن سرعة توزيع صندوقٍ واحد أبطأ من إمكانية عرقلة الخطاب الجديد. والمفارقة أن قوة الخطاب المنتظر، على الرغم من مأساوية الوضع، تكمن في استمرار التردّي الاقتصادي والاجتماعي. هذا يعني أن انفجاراً ما سيحصل في لحظةٍ ما، لا أحد يمكنه توقعها، وسيسري كالنار في الهشيم. هذه حتمية غير مبنيةٍ على سلوك أو تغريدات أو تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل على رد فعل بدائي لإنسانٍ وجد نفسه فجأة أمام أمر واقع: لا غذاء، لا دواء، لا بنزين. ربما يظنّ كثر أن خيبة محاولة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 تحدّ من إمكانية حصول الانفجار، لكن الأمر عملياً غير مرتبط بإجراء المقارنات، لأن عملية استنساخ التجارب مختلفة عن نشوئها في لحظةٍ غير مُخطّط لها. وبالتالي، ستختلف النهايات، إيجابية كانت أم سلبية، طالت أم قصُرَت.
نحن في يوليو/ تموز 2021. وقبل عامين بالضبط كانت بوادر الأزمة المالية قد بدأت بالاشتداد. تحدّث خبراء غير تابعين لأحزاب عن كيفية معالجة الأزمة قبل تفاقهما، بما يحمي البنيان الاجتماعي للناس. لم تسمع السلطة ولا أحزابها ذلك، لأنهم كانوا يكتشفون حديثاً أن هناك شيئاً يُدعى "علم الاقتصاد". وحين حصلت الكارثة بدأوا بتحميل المسؤولية للناس، لا لأنفسهم ولا لكونهم مسؤولين عن ثلاثة عقود متتالية من الفساديْن المالي والاقتصادي. يريد مثل هؤلاء إقناعنا بأن الحلّ يبدأ عندهم وينتهي عندهم، وحين يرون أن الناس لم يعدوا يأبهون لهم، يتحدّثون عن السيادة والكرامة والاستقلال، أي الشعارات التي تستعين بها الأنظمة الديكتاتورية لقمع حرية شعوبها. في لبنان، ولّى زمن "الديمقراطية التوافقية" سيئ الذكر، لمصلحة "الديكتاتورية التوافقية".