لبنان جبّور الدويهي
طوى الروائي اللبناني، جبّور الدويهي، صفحات حياته، الأسبوع الماضي، عن 72 عاما، بعد أن طوى في آخر صفحات عاشر رواياته (وآخرها) "سمٌّ في الهواء" (دار الساقي، بيروت، 2021) سيرة بطلها الراوي الذي بلا اسم، كما كل من في الرواية وكما أمكنتها (اللبنانية إيحاءً وترميزا)، بكيفيةٍ ملتبسةٍ، في العزلة التي اختارها في منزلٍ سقفُه من قرميد في قريةٍ على البحر، "حلّقتُ مع الحمام بعيدا نحو السماء الزرقاء، حيث اختفيت، أنا والرفّ، في الأفق البعيد". ولا يحتاج قارئ هذه الرواية، المتينة في رهافتها وكثافتها، إلى حصافةٍ خاصةٍ ليعرف إن الانفجار الذي أشعر الراوي بـ"ارتجاجٍ يشبه الهزّة الأرضية" هو الذي يكتمل الأربعاء المقبل عامٌ عليه في مرفأ بيروت. يقول "نهضتُ واقتربتُ من النوافذ فرأيتُ ما يشبه الفطر الهائل فوق المدينة. كان الانفجار كبيرا، عمودا يرتقي نحو السماء، ألوانُه متدرّجة، سميكةٌ، من الأبيض والأسود إلى البنيّ والأصفر البرتقالي، تجمّعٌ للسموم بدت معه المدينة، كأنها تلفظ كل ما في أحشائها إلى الخارج". وبذلك، يكتمل طواف أعمال "روائي الحياة اللبنانية"، كما لقّب جبّور الدويهي، وجولانُها (تعبير صحيح) في لبنان، في عمومه، في تاريخه وطوائفه وحروبه وتنويعاته الاجتماعية، بمشهد انفجار المرفأ (لم يذكر المرفأ أبدا) الذي سمّم الهواء في المدينة التي هبط الموت عليها، في تلك اللحظة، بحسب الرواية التي تُخبرنا أيضا إن طيور الحمام في ذلك اليوم لم تأتِ إلى سقف القرميد.
تتحقق متعةٌ بالغةٌ في قراءة المشهدية العالية اللغة، المختَتمةِ بها "سمٌّ في الهواء"، بما فاض من أنفاس الراوي، وهو يحكي عن الانفجار، وعن الزمن الذي دار دورته، وقد قامت الرواية على حكيه، فكان مما عرفناه عنه أنه مسيحي ماروني التحق بالمقاومة الفلسطينية في الأردن، في التاسعة عشرة من عمره، ثم عاد بعد أيام، لما سرّحه الفدائيون، بعدما شكروه على تعاطفه، متذرّعين بأن الطلب على التجنيد في الكفاح المسلح الفلسطيني يفوق الحاجة، وقد شكّ ضابطٌ منهم بأن إصابته بالإسهال نتيجة "خوفه من المواجهة". يتزوّج فيما بعد شيعيةً في كنيسةٍ آشورية، ثم يطلّقها. وفي الوسع هنا القول إن واحدةً من لطائف جبّور الدويهي أنه لمّا انشغلت رواياتُه بلبنان، ناسا واجتماعا، مدينةً وريفا، راهنا وماضيا، اهتمّ، غالبا، بتسمية طوائف أبطاله وشخوصه، غير أن منطوقات محكيّاته ظلت دائما مضادّةً للطائفية، بالمغازي، الظاهرة والخافية، في الحوادث والوقائع التي غالبا ما ينسجها صاحب "اعتدال الخريف" بخبرة العارف بالرواية فنّا، بعيدةً عن التأريخ، قريبةً من الحقيقي بمقدار بُعدها عنه. ثمّة طوائف حاضرة، وثمّة لا طائفية (أو طوائفية، إذا أجاز لنا النّحاة هذه المفردة) في مرسلات العالم الفسيح والمتعدّد الذي أقامه هذا الكاتب الرفيع السويّة، وتنوّعت فيه القصص المتناسلة من بعضها، والمروّيات المنبسطة في تدافع السرد وانتقالاته من زمنٍ إلى زمن، ومن فضاء إلى فضاء.
قال جبّور الدويهي، مرّة، إنه يروي ما يستفزّه. وفي الوسع أن يُضاف هنا إن المفارقات، بطرافاتٍ صغرى وكبرى، ظلّت من الشواغل التي كان كاتبنا كثير الاكتراث بها. في روايته "شريد المنازل" (2010)، جعل البطل مسلما بالولادة ينشأ في أسرة مسيحية، فيكون منفصم الهوية في غضون الحرب الأهلية اللبنانية. وفي "مطر حزيران" (2006) يبني محكياتٍ متخيلةً مضفّرةً بما هو تاريخي، مستلهمةً من وقائع معركةٍ في كنيسةٍ بين مجموعتين مسيحيتين متداخلتين في النسب والقرابة والجيرة في بلدةٍ في شمال لبنان، حدثت في العام 1957. وفي "ملك الهند" مرورٌ على اقتتالٍ بين دروزٍ وموارنةٍ في قرية في 1860. وفي هذه الروايات وغيرها ثمّة حبكاتٌ ملغزةٌ، وبوليسيةٌ أحيانا، وبناءٌ شائق، متخفّفٌ من اللغة الشعرية المنشغلة بنفسها، وحضورٌ للوصفيّ ولمنظور الرائي بعين المحايد، إلى حدّ ما. وثمّة ابتعادٌ عن الشرح، وإنْ ثمّة احتفالٌ نابهٌ بتفاصيل ذات مدلولاتٍ وإيحاءات. وفي الذي كان يصنعه جبّور الدويهي، في غضون هذا كله، وغيره، كانت صراعات لبنان ومطبخُه ومأثوراته وانقساماته وانفصامات هويته (أو هويات أفراده؟) وتقاطعاتُه الاجتماعية بين مسيحييه ومسلميه، ماثلةً في عشر روايات، أطلّت على تاريخ قريبٍ وآخر بعيدٍ للبنان، وصولا إلى لحظة انفجار المرفأ في "سمٌّ في المدينة"، وهذه تلويحةِ وداعِه قرّاءَه، وقد نكّست الرواية اللبنانية رايتَها في هذا الوداع، على ما قال من قال.