لبنان تغيّر
"لبنان الذي تعرفونه قد تغيّر. المنارة المشرقة انطفأت، والمرفأ الذي كان يعتبر باب الشرق انفجر. والمطار الذي يُعتبر منصة للتلاقي تنطفئ فيه الأنوار لعدم وجود المحروقات". هذا ما أدلى به رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، الأربعاء الماضي، في كلمته في القمة العربية الـ31 في الجزائر. لكثيرين "نظرةٌ" ما، نمطيةٌ وغيرها، عن لبنان. وكذلك للبنانيي الاغتراب، من الأجيال الأولى إلى الحالية، نظرتهم التي تهيمن عليها في العادة النوستالجيا وصوت فيروز.
أيّ لبنان تغيّر؟ لبنان الذي بات وضيع العقل بفعل تكريس سلطة الطائفية المقيتة والمذهبية القذرة. لبنان الذي أصبح معدّل الذكاء لديه أقلّ من معدّل ذكاء سمكةٍ تعلق بصنّارات الصيادين. لبنان الذي أضحى شعبُه عديم الأخلاق، سواء بالتعاطي المباشر أو برمي القاذورات من السيارات أو بالتصرّف وكأنهم ملوك وسط أكوام النفايات المنتشرة في كل حي وشارع. لبنان الذي تحوّلت شوارعه وأوتوستراداته إلى بحورٍ مليئة بالمياه المتّسخة، التي غرقت فيها آلاف السيارات في الأسبوع الأخير. تغيّر هذا البلد بشدّة، لم تعد الطيبة متأصّلةً في نفسيته، هذا إذا كانت موجودة في الأساس.
تغيّر لبنان كثيراً. التصنّع والتزلّف والسلوك الفوقي والاستعلائي جزءٌ من عقلية لبنانية، أقلّ ما يُقال عنها إنها "غير سوية". تجد لبنانيين كثيرين، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو بالأحاديث اليومية، وكأن حياتهم منبثقةٌ من المواضيع الفارغة. أحاديث وتعليقات غبيّة. وتجد لبنانيين كثيرين في الاغتراب يستغلون أي لبنانيٍّ في الداخل يسعى إلى العمل في الخارج، عبر محاولة تحديد رواتب ضئيلة له، بحجّة أن "الدولار في لبنان قوي". وتجد مجلس نوابٍ منبثقا من قانون انتخابي غير عادل، مشوّها بفعل الترهيب الذي مورس في الانتخابات النيابية في مايو/ أيار الماضي. لم يأت هذا المجلس بجديد، سوى أن من يدّعي التغيير نجح في "تشريع" الاستعلاء وفشل في تبديل نوعية التفكير السياسي.
انظروا فقط إلى الحوارات السياسية في لبنان وإلى الإعلام اللبناني وإلى المسلسلات اللبنانية وإلى الفن اللبناني والرياضة اللبنانية وغيرها. لن تجدوا إبداعاً ولا استمرارية لماضٍ ساحر، بل مجرّد استعارات واستنساخات تصلح لزمن رديء. آه نحن في مثل هذا الزمن إذاً. لبنان تغيّر بشدّة: أطفال بالكاد يبلغون سن الـ11 أو الـ12 يقودون درّاجات نارية، ويضعون أسلحة على خصرهم، يدخّنون السجائر والنراجيل، من دون مدارس ولا تعليم. أي جيلٍ صاعدٍ هنا؟
نعم لبنان تغيّر، لكن ليس بالطريقة التي أراد ميقاتي إظهارها، ولا الرئيس السابق ميشال عون ولا رئيس البرلمان نبيه برّي، ولا كل حزبٍ من الأحزاب اللبنانية. يريدون إظهار أن "البلاد فقيرة وتحتاج لدعم مالي عربي"، في سيناريو بكّاء متكرّر في بيروت. لا، يا سادة، لا نحتاج ذلك، بل نحتاج فقط من يطبّق القانون. يحتاج هذا البلد من يحاكم مسؤولا أو رئيسا، سابقا أو حاليا، ويزجّه في السجن إلى الأبد، ويستردّ الأموال المنهوبة، مهما بلغ حجمها، ويمنع كل من هو على "لوائح رواتب" السياسيين ورجال الأعمال وغيرهم من المشاركة في الشأن العام.
لم يعُد لبنان وطناً يخرج منه كاتبٌ أو فنانٌ أو مخترع، بل أمسى رمزا لفسادٍ مستشرٍ. تجد عصابة في البرازيل بزعامة لبنانية، ومافيات في أفريقيا بقيادة لبنانية، ومهّربين في ألمانيا برئاسة لبنانية، ومجرمين في أستراليا لبنانيين. هذا ما تغيّر، لا المنارة ولا التلاقي ولا المحروقات، وهذا ما جعل التسوّل مبدأً لبنانياً أصيلاً، بينما كل ما نحتاج هو خطة ثلاثية أو خمسية، تُطلق اقتصاداً فاعلاً وناجحاً، على اعتبار أن مساحة البلد أصغر من أن نظنّ أنها على قمّة العالم. لبنان تغيّر، لكن تغييره مجدّداً أمر في غاية السهولة، فقط إذا خرج أحدُهم مقتنعاً بأن البلاد لا تُدار هكذا، بل بالقضاء والعدالة والأخلاق.