كيف يصبح المواطن العادي قاتلاً

30 سبتمبر 2023
+ الخط -

كيف تصبح قاتلا وترتكب أشنع الجرائم وأنت شخص عادي ومدني، ولم تقتل نملة في حياتك؟ هذا السؤال يطرحه الفيلم الوثائقي "رجال عاديون .. الهولوكوست المنسية"، الذي عرضته منصّة نتفليكس أخيرا، وهو عن قصة للباحث والمؤرّخ الأميركي كريستوفر براوننغ، صدر في عام 1993، وتتحدّث عن كتيبة الشرطة الاحتياطية، الكتيبة رقم 101 التي ظهرت في مدينة هامبورغ في ألمانيا في أثناء الغزو النازي بولندا. حيث شكّلت هذه الكتيبة جيشا رديفا للجيش النازي، وكلفت بمهام عنيفة وقذرة، وانضمت إليها لاحقا مجموعات من البولنديين المؤمنين بالفكر النازي. كتيبة الشرطة 101 أفرادها مدنيون، عمّال وموظفون في مكاتب وحرفيون ومثقفون وأصحاب شهادات عليا، أزواج وآباء وأبناء، يعيشون حياتهم بشكل اعتيادي، يستمعون إلى الموسيقى، ويقرأون كتب الأدب والفكر، ويربون أبناءهم على قيم الحق والجمال، وكثر منهم لم يقتل نملةً في حياته. هؤلاء هم الذين نفذوا أشنع الجرائم وأكثرها وحشية حين كانت تصدر لهم الأوامر ببدء القتل، بعد انتسابهم لكتيبة الشرطة الاحتياطية تلك.

يرصد الوثائقي (من إخراج وسيناريو الألماني مانفريد أولدنبورغ) تاريخ تأسيس الكتيبة وظروفه ومصير أعضائها وما ارتكبوه من جرائم منذ تأسيسها حتى سقوط النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم محاكمة قادتها بعد الحرب، واعترافاتهم بما ارتكبوه، واعتباره فعلا وطنيا، كان ضروريا لتحقيق انتصار ألمانيا في الحرب. وهو أمرٌ لا يجوز الندم عليه، بل تجب المفاخرة به، كما قال قادة الكتيبة في أثناء المحاكمة. واللافت أن قادتها، في أثناء تشكيل الكتيبة، أخبروا المتطوعين بأنهم بصدد تنفيذ أوامر صارمة تتعلق بعمليات قتل قد تكون كثيفة، وأن من يشعر بأنه غير قادر على هذا النوع من تنفيذ الأوامر الانسحاب مباشرة، ولن يعتبر ذلك عصيانا، ولن يحاسبه أحد على انسحابه، حسب اعترافات بعض قادة الكتيبة وأعضائها ممن بقوا على قيد الحياة لاحقا؛ ما يعني أن لا صحّة لما روّج عن أن من كان يرفض التجنيد وتنفيذ الأوامر كان يتعرّض للإعدام.

في الحقيقة، كما يوضح بعضهم، كان خوفهم من الانسحاب والعودة بسبب الإعدام المجتمعي، من نظرة المجتمع لهم، واتهامهم بالجبن والتخلّي عن ألمانيا في الوقت الحرج. أما الأوامر فكانت قتل آلاف من اليهود والمنبوذين (حسب النبذ النازي) أو تجميعهم وإرسالهم إلى المحارق. ولم يكن القتل الجماعي يستثني لا الأطفال ولا النساء، بل كان يحدُث بطرقٍ بالغة الوحشية. كأن يمسك المتطوع طفلا، ويضرب رأسه بشجرة حتى ينفجر الرأس. أما الغرض من هذه الطريقة الوحشية في القتل فهو توفير الطلقات لمن هم أكبر سنا، ذلك أن قتل الأطفال بهذه الطريقة سهل وسريع، لكن ذلك كان يسبب كوابيس لبعضهم، ويصيبهم بحالات نفسية سيئة، ما جعل أحد القادة يقترح التوقّف عن هذا النوع من القتل، واستبداله بأن تحضن الأم طفلها، ثم يصوّب الجندي النار نحو رأس الطفل، فتخترقه الرصاصة، وتدخل في جسد والدته. هكذا يموت اثنان بطلقة واحدة.

يوضح الوثائقي أن هذا الاقتراح لم يكن تعاطفا مع الأطفال الضحايا، بل مع أفراد الكتيبة القتلة، ما يعني أنه، ولا ذرّة ندم كانت تراود قادة الكتيبة. كان أحدهم شابا وسيما مثقفا، يحمل شهادتي دكتوراه، وله خمسة أطفال، اعتاد على إسماعهم مساءً موسيقى بيتهوفن وباخ. وأحدهم الآخر أحضر زوجته الحامل إلى مركز الكتيبة، وكانت تشاهد عمليات القتل الجماعية وقتل الأطفال بدون أن يساورها الرعب أو الاشمئزاز مما ترى.

إذا، ثمّة مساحة من العنف والوحشية تكمن داخل البشر سوف تظهر عندما تتوفّر لها الظروف الموضوعية واللوجستية لتظهر. طالما الحياة تسير باعتياديّتها، فالبشر سيعيشون بتحضّر ولطف، لكن هذا السلوك اليومي قابلٌ للتحوّل، ما أن تمارس عليه سلطة ما ضغوطا خارجية. وفي حالة كتيبة الشرطة الاحتياطية، كانت السلطة مجتمعية، حيث إن الفكر القومي كان قوي الحضور في المجتمع الألماني؛ هذه الإيديولوجيا فيها من العنف والفاشية ما يجعلها تسود في لحظات التحوّل الكبرى في المجتمعات. وهذا ما حدث في ألمانيا ويحدث في كل الأماكن التي تحصل فيها إبادات جماعية يشارك بها مدنيون وأشخاصٌ من العامّة يؤمنون بأن ما يرتكبونه من جرائم هو فعل وطني يضمن مستقبل الوطن ويحافظ عليه؛ حتى موتهم هم الشخصي في هذه الحروب والإبادات يندرج بالنسبة لهم تحت عنوان فداء الوطن. بينما الحقيقة أن ما يحرّكهم فكرٌ إيديولوجي كامن أظهرت عنفَه ظروفٌ طارئة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.