كيف نتذكّر شمس بدران؟
مات قبل أقل من أسبوعين شخصٌ اسمُه شمس بدران، عن 91 عاما، في مدينة بليموث في جنوب بريطانيا، حيث كان يقيم مع أسرته منذ غادر موطنه مصر قبل 45 عاما، أمضى كثيرا منها في إدارة مصنع يملكه (أو شريك فيه؟) لإنتاج أعلاف الدواجن. وفي الأثناء، تزوّج من بريطانية، بعد زواجٍ أول في مصر. لا تعدّ تفاصيلُ شخصيةٌ كهذه مسوّغا للاكتراث بصاحبها، وإنْ يتسلّل ظنٌّ أنها تتعلق بقصة نجاح رجل أعمالٍ مصري مغترب. ولكن المسألة ليست هنا أبدا، وإنما هناك في مصر التي لولا أقدارٌ لكان المتحدَّث عنه أحد رؤسائها السابقين، لمّا جال في خاطر جمال عبد الناصر، أياما بعد انكشاف الهزيمة في حرب حزيران 1967، أن يُقْطِع رئاسة مصر له، مؤقتا "ريثما يمكن ترتيب الأمور"، لولا أن مشورة صديقه محمد حسنين هيكل جعلته يعدل عن خاطره ذاك، وأقنعته بأن مُرادَه تفادي تصادمٍ بين الجيش والجماهير (كانت هذه المفردة ذائعةً في أوساطهم) لن تحقّقه رئاسة شمس بدران البلد، بل ستساهم في حدوث التصادم المتخوّف منه.
في تلك الغضون، كان تاجر أعلاف الدواجن لاحقا، وزيرا للحربية في مصر (نظير حافظ الأسد في سورية في حينه)، المنصب الذي مُنحه قبل عامٍ من الهزيمة، ليكون الرجل الثاني في الجيش بعد عبد الحكيم عامر، ما جعله، عشيّة الهزيمة، يتباحث مع موسكو بشأن السلاح والحرب التي ستقع. ثم لمّا عاد، أبلغ القيادة، وزملاءه الوزراء، أن الاتحاد السوفييتي سيدخل مع مصر في الحرب إذا وقعت (!). وغداتَها، اتُّهم (و53 ضابطا ومدنيا) بأنه عَمِل على تدبير عملية اختطاف عبد الناصر. وقد قال (أو ثرثر)، بعد سنواتٍ بعيدة، إن عبد الناصر كان يعرف أنه قادرٌ على إطاحته، إذا شاء ذلك، بسهولة. وقال أيضا (أو ثرثر على الأصح)، إن أكبر خطأ له إنه، يوم بدء الحرب، 6 يونيو/ حزيران، لم يقبض على عبد الناصر، ويقدّمه إلى محاكمةٍ، لجريمته توريط مصر وجيشها في حربٍ عبثية. ساقَه إخفاقُه في تدبيره ذاك إلى المحاكمة أمام مجلس قيادة الثورة، بتهمة محاولة الاستيلاء على نظام الحكم بالقوة، فأودع السجن الحربي الذي كان مديرا له في سنواتٍ أسبق، محكوما بالإعدام، قبل تخفيفه إلى المؤبّد والأشغال الشاقة، ثم أضيف إليه حكمٌ بالسجن 30 سنة، لتعذيبه مساجين من الإخوان المسلمين.. وتاليا، في 1974، أخرجه أنور السادات من الحبس، ثم غادر، بجواز سفر دبلوماسي، إلى لندن.
دعْك من أن شمس بدران ناقص الكفاءة العسكرية، وأنه كان من ضباط وحدة الفالوجة في حرب فلسطين عام 1948، مع عبد الناصر وعامر وغيرهما، وأنه كان من هوامش حركة يوليو 1952، وانظر فيه من أعلام هزيمة 1967، ليس فقط لأنه كان إبّانها في موقعٍ قياديٍّ عسكري متقدّمٍ جدا في مصر، وإنما أيضا لأنه كان من أعلام الاستبداد الأسود في المرحلة الناصرية كلها، الاستبداد الذي يبقى من أسباب تلك الهزيمة. وكان من رموز القسوة الشنيعة في سجون تلك المرحلة، بعد ترؤسّه جهاز البحث الجنائي العسكري في 1956. ومن مفارقاتٍ مثيرةٍ، في أرشيف هذا الرجل وسيرته التي تغري كتّاب سيناريوهات أفلام السينما، أنه اشتكى، وهو في الحبس، من تعرّضه للتعذيب لانتزاع اعترافاتٍ منه. صحّ هذا أو لم يصحّ، قائل هذا الكلام حصل على دوراتٍ تدريبيةٍ عالية المستوى في فنون التعذيب في الاتحاد السوفييتي، على ما قال السفير المصري العتيق في موسكو، المحترم مراد غالب. ظل اسمُه مخيفا للمصريين، لاقترانه بالقهر والتجبر والتسلّط. وقد أقرّ، في أحاديث ومذكراتٍ منسوبة إليه، بأنه كان يزاول تعذيب الإخوان المسلمين، ليحصل على اعترافاتهم بما يكيدونه لمصر من خراب، بتعبيره. وقال إنه ليس نادما على هذا، وإن الزمن لو عاد به إلى الوراء لفعل ما فعله. وإنْ أفاد، مرّة، إن مبالغاتٍ ساقها الإخوان عن التعذيب الذي مارسه رجاله ضدهم (هل فعلا كانوا يجوّعون الكلاب لتنهش أجساد المحبوسين في الزنازين؟). وقد نعتته زينب الغزالي بأنه "وحشٌ مجرّدٌ من الإنسانية".
كيف نتذكّر شمس بدران؟ لا أظن أننا سنتذكّره الرجل الذي كان يُجبر محمد عبد الوهاب على الغناء له كل أسبوع (نُشر أن عدة تسجيلات محفوظة لديه لم يتم إذاعتها). ولا أنه الذي رمى عبد الناصر، من مغتربه قبل سنوات، بكلام مسفٍّ وشديد الوضاعة. ولا أنه اسمٌ من تمثيلات خرائط التربّص والتآمر في نظام عربي آفل، لم يكن واحدٌ من ناسِه يأمَن لغيره. وإنما نتذكّره واحدا من عناوين خسارات العرب الفادحة في معركة الحرية والاستقلال، فكان من رموز ظلام الاستبداد العربي الباقي، ومن راياتٍ سوداء في الهزيمة التي ما زالت تتمدّد أمام إسرائيل.