كيسنجر وإرث "الواقعية السياسية"

02 ديسمبر 2023
+ الخط -

مائة عام من رحلة هنري كيسنجر، بدأت في بافاريا الألمانية وانتهت في كونيكتيكيت الأميركية، تخللتها مسارات استثنائية لرجلٍ رافق اسمه بلداناً عدة. كان خصماً في عدة دول في الشرق الأوسط وصديقاً حميماً للصين، تحدث عن إيران "الشريك الاستراتيجي" للولايات المتحدة، وعن روسيا "الخصم الذي لا بد منه". لم يحظَ كيسنجر بإجماع عالمي، ولعلّ ذلك يعود بالأساس إلى اعتناقه مبدأ "الواقعية السياسية"، الذي يترجم مصطلحاً أكثر فجاجة منسوب لوينستون تشرشل "لا عداء دائماً ولا صداقة دائمة في السياسة بل مصلحة دائمة".

كما لكل مبدأ في الحياة إيجابيات وسلبيات، كذلك في "الواقعية السياسية"، التي لا يُمكن فهمها بشكل صريح ما لم تكن متشرّباً الرأسمالية بمفهومها الاستهلاكي، وتلبية الحاجات النابعة من تراكم الغرائزيات وإرادات الوعي. لا أيديولوجيات في الواقعية السياسية، بل تُوظّف العقائد والمبادئ لمصلحة هذا النوع من السياسات. وقد يكون القرن الـ20 قد مهّد لهذه الفكرة، بينما حان تطبيقها في القرن الـ21. كيسنجر هنا أدى أدواراً لم تكن لتخطر على بال العديد من المستشارين عبر التاريخ، لأنه في العادة يرسم هؤلاء خطوطاً حمراء لا يتجاوزونها. بالنسبة لكيسنجر فإن تجربته الشخصية كيهودي ألماني هرب من النازية إلى الولايات المتحدة، دفعته إلى واقعية مجرّدة من المشاعر. غير أنه اختار في خضمّ ذلك الولاء للنظام الأميركي، لا لرئيس محدد.

ولكونه رجلاً تكلم مراراً عن صياغة الجيوبوليتيك في العالم، وإعادة ترتيب مشهديات جغرافية وسياسية، فإن اسمه ارتبط بما اصطُلح على تسميته بـ"مخطّط كيسنجر"، سواء في لبنان أو في فلسطين أو غيرهما، خصوصاً أن "المخطط" تزامن مع مرحلة مظلمة في تاريخ البلدين. في المقابل، فإن الصين تفخر بأن كيسنجر كان عرّابها لولوج العالم الرحب، وغزوه بالمنتجات واستعادة أحلام طريق الحرير العتيق. أيقظ كيسنجر العملاق الصيني، الذي لطالما دعا نابوليون بونابرت إلى عدم إيقاظه.

في كل تلك المراحل رغب كيسنجر في أمر واحد: المحافظة على الريادة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، لا "العالم الحرّ" حصراً وفقاً لأدبيات الحرب الباردة (1947 ـ 1991). نجح في ذلك، حتى أنه خلّف إرثاً في أدبيات الدبلوماسية الأميركية، صاغت ترتيبات واتفاقات لحظوية مع "الأعداء"، من "إيران كونترا" إلى الخروج من أفغانستان بعد اتفاق مع حركة "طالبان". ولكثرة التغيّرات في السلوكات السياسية الأميركية، اختفى اسم كيسنجر وظلّ مصطلح "الأميركيون يفعلون ما يشاؤون". لكن هذا الاختفاء لا يلغي كونه الرجل الذي منح للسياسة الخارجية الأميركية دوراً أكثر انخراطاً في صناعة التبدلات الإقليمية والدولية. لعل بقاء الأميركيين خلف المحيط الأطلسي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، منح كيسنجر ورقة دعا فيها إلى تغيير قواعد اللعبة، وصولاً إلى اعتمادهم عنصر "الضربة الاستباقية" العسكرية، التي طوّروها في مرحلة "الحرب على الإرهاب"، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

اللافت أن "الواقعية السياسية" لم تعد تقتصر على كيسنجر أو الولايات المتحدة. الصينيون باتوا كذلك: نظامهم شيوعي موجّه واقتصادهم حرّ متفلّت. الروس أيضاً، إذ تظهر دائماً في أدبيات الرئيس فلاديمير بوتين مصطلحات مثل "الاستيراد والتصدير" وأن "هذه الدولة يرتفع داخلها بالتزامن مع ازدياد عدد سكانها، وسنشبك معها اقتصادياً". لم يكن لا ماو تسي تونغ ولا جوزيف ستالين ليتصورا إمكانية وصول بكين وموسكو إلى هذا الاندماج مع الأسواق الرأسمالية.

الإرث الكيسنجري هنا يرسّخ قاعدة أساسية، باقية لعقود أقله في التفكير البشري، وهي أن المصالح أكثر عمقاً من صداقات أو خصومات محددة. المال يجمع الأعداء، فكيف إذا كانوا على تماس جغرافي؟ فكر كثيرون وبشروا بالواقعية السياسية، لكن كيسنجر منحها النسخة الأكثر تطوراً، وهي النسخة التي تستولد كرهاً شديداً أو إعجاباً لا يوصف. الواقعية السياسية ليست رمادية، وكيسنجر أدرك ذلك خلال فراره إلى نيويورك في عام 1938.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".