كورونا يحكم العالم
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قبل ثلاثة أرباع قرن، لم يمر العالم بعام أصعب وأكثر قسوة على البشر من العام 2020، بل إن أزمة انتشار فيروس كوفيد - 19 أوقعت خسائر، وستكون لها تداعيات أشمل وأخطر، فالحرب العالمية لم تصل تداعياتها إلى كل بقاع الأرض، وتضرّرت من خسائرها قطاعات دون غيرها، بينما اخترقت جائحة كورونا مختلف المجالات، وأسقطت كل الحواجز، وضربت الحصون الاقتصادية والتكنولوجية، بل والفكرية أيضاً.
2020 هو حصرياً عام كورونا، ونقطة تحول تاريخية نحو تغيير العالم الذي نعرفه إلى عالم آخر، ربما لم تتبلور ملامحه كاملة بعد. ولكن المؤكد أنه سيكون عالم كورونا، أو عالماً "كورونياً" بامتياز، فقد طغت الجائحة، بجوانبها المتعددة والمتداخلة، على كل الأزمات والمحن والملاحم والاختبارات الإنسانية والعلمية، بل والفكرية السابقة، فقد أثارت الجائحة التساؤل حول جدوى (وكفاءة) الأفكار والدراسات المستقبلية التي لم تستطع التنبؤ، أو حتى التوصل إلى كيفية مواجهة فيروس سليل عائلة معروفة مسبقاً وشهيرة في عالم الفيروسات والأمراض.
في 2020، وعلى وقع كورونا، تغيرت سياسات وتبدلت أوضاع دول كثيرة وقدراتها، فصارت الخريطة العالمية موضع مراجعة وإعادة نظر بمعايير غير تقليدية، خصوصاً في ضوء دروس وتجارب التعاون أو التنافر بين الدول في مواجهة الأزمة، بل شهد العالم مظاهر وممارساتٍ لم تحدث منذ العصور الوسطى، منها مثلاً أن دولاً مارست عمليات قرصنة، واستولت على سفن تحمل أجهزة ومستلزمات طبية خاصة بدول أخرى.
ولم تكن السياسات الداخلية للدول بمعزل عن ذلك الطوفان المصاحب لكورونا، حيث فوجئت كل الدول تقريباً بأن أوجه القصور لديها، والنواقص في سياساتها الداخلية، أعمق وأخطر كثيراً مما كانت تظن، بما في ذلك التقديرات والاستعدادات المتعلقة بأوقات الأزمة وحالات الطوارئ. وبدا واضحاً أن معظم الدول، إن لم يكن جميعها، كانت قصيرة النظر في توقع الأزمات والكوارث المحتمل وقوعها. واكتشفت معظم الدول أن التكنولوجيا والحياة الإلكترونية لا تُغني بالمرة عن العنصر البشري القادر على مواجهة متطلبات الحياة المعاصرة وأزماتها، ما يعني بالتبعية ضرورة تأمين الكفاءات البشرية، الكافية كماً ونوعاً، لأغراض ومجالات حياتية كانت تبدو، حتى أشهر قليلة، محصنة ومؤمنة، كما لو كان العالم قد وصل فيها إلى الكمال.
كشف هذا العام، أيضاً، أن كل شعوب العالم بحاجة إلى مراجعة حساباتها في ما يتعلق بحدود بل ووجود "الاعتماد المتبادل" بشكل فعلي، فمع أول أزمة عامة شملت كل الدول، اتضح أنه لا أرضية أو مقومات فعلية جاهزة لتطبيق ذلك "الاعتماد المتبادل" على نطاق واسع أو حتى متوسط، فبعد أسابيع فقط من محاولة التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات واللوازم الضرورية لتفادي الكارثة، سارت كل دولة نحو إجراءات منفردة لمواجهة الأزمة، بمعزلٍ عن بقية الدول، على الرغم من أن الأزمة اخترقت الحدود الجغرافية منذ البداية. إلى حد أن المنظمات الدولية والتجمعّات الإقليمية، كاد العالم ينسى أسماءها في خضم الأزمة، على الرغم من أن المفترض اضطلاعها بدور جوهري في مواجهة كارثة عابرة للأوطان والأقاليم.
ولكن المفاجأة الحقيقية، في اكتشاف دولٍ كثيرة أنها لا تملك البنية الفكرية، وبالتالي الأطر المؤسسية اللازمة لتحقيق تلك الاعتمادية التبادلية فيما بينها. والأكثر غرابة أن ذلك الوضع المنكشف شمل أنماطاً من الدول شديدة التفاوت والاختلاف في توجهاتها الفكرية ونظمها السياسية والاقتصادية. من الصين وروسيا وكوبا وفنزويلا إلى الولايات المتحدة الأميركية واليابان وأستراليا.
لم تنته الأزمة بعد، وقد تمتد حتى نهاية العام الجديد 2021، ولا إشارة إلى تغيير جوهري في طريقة تعاطي العالم مع كورونا. وأياً كان الاتجاه، فواضحٌ أنه سيكون مساراً إجبارياً ترسمه بوصلة كورونا، إذ صارت تحكم العالم.