كل هذه المخابرات

07 سبتمبر 2018

(Getty)

+ الخط -
"الإنسان المحترم لا يقرأ بريد ناسٍ آخرين".. عبارةٌ شديدة البداهة، لا تستحقّ نظرا كثيرا فيها، من فرط عاديّتها. ولكنْ لأن من قالها هو وزير خارجية أميركا في العام 1929، هنري لويس ستيمسون، فإن المصنّفات والدراسات التي تبحث في طبائع الدول ترميها بالسذاجة، لا سيما أنّ الأخْذَ بها كان وراء إخفاق الولايات المتحدة في معرفةٍ مسبقةٍ بتدبير البحريّة اليابانيّة لضرب الأسطول الأميركي في المحيط الهادي، في قاعدته في ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي، في ديسمبر/ كانون الأول 1941. ذلك أن أميركا كانت قد علّقت، في العام الذي نطقَ فيه ذلك الوزير قولته (الساذجة؟) تلك، فكّ الشيفرات الأجنبية. .. يرد هذا في الكتاب العظيم الفائدة، والشائق، والوافي في إحاطته بموضوعه، "تاريخ المخابرات.. من الفراعنة حتى وكالة الأمن القومي الأمريكية" (سلسلة عالم المعرفة، الكويت، إبريل/ نيسان 2018)، للألماني وولفغانغ كريغر (ترجمة عدنان عباس علي). يتقصّى، في صفحاته التي تزيد عن الخمسمائة، مسار العمل الاستخباري والتجسّسي، منذ كان حكام الأقاليم في الإمبراطورية المصرية القديمة يقدّمون للفرعون تقارير عن ولاء النخب المحليّة والملوك الثانويين، في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وحتى هروب الموظّف التقني في المخابرات الأميركية، إدوارد سنودن، إلى الصين ثم إلى روسيا، في صيف العام 2013. 

طاف الكتابُ على حروبٍ وإمبراطورياتٍ وأممٍ ودولٍ بلا عدد، واحتشد بالتفاصيل الموثّقة، في عملٍ بحثيّ رفيع. اعتنى بالتاريخ، وكذلك بأساليب التجسّس والتخابر وتجنيد العملاء وتنوّعها، وجاء على تجاربَ وفيرةٍ في هذا كله، فاستحقّ بذلك صفتَه المرجعيّة، فيفيد منه القارئ المتخصّص، وكذلك العابر الذي يستوقفه ما يحتاج منه في محطّةٍ هنا أو هناك في تاريخ البشرية المديد. ومن إيجازاتٍ غير قليلةٍ يقع عليها القارئان أن الدول، صغرى وكبرى، لا تستقيم أحوالُها إذا لم تعتنِ بالأهمية القصوى للنشاط الاستخباري، على دولٍ أخرى طامعة، وقويّة، ومتحفّزة، وإذا لم تكترث لأهمية أن تعرف كل شيءٍ عن رعاياها، وكلُّ شيءٍ هنا تعني كلَّ شيءٍ تماما. ومما قد تعدّ عجيبةً في إحاطاتٍ كثيرةٍ يوضِحها الكتاب، المذهل في سعة جغرافيّاته والأزمنة التي يأتي عليها، أن الولايات المتحدة التي تعدّ (ربما) أعتى دولةٍ في العالم في الإنفاق على النشاطات الاستخبارية، والأكثر تنويعا في أجهزتها التجسّسية، المعنيّة بالداخل والخارج، حديثةُ عهدٍ بهذا كله، فقد كانت، عشيّة اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحدَها الدولةَ العظمى في العالم بلا جهاز مخابراتِ مركزيٍّ، وأنها بعد 1945 بدأت استحداث نظامٍ استخباريٍّ، جديدٍ إلى حدٍّ بعيد. وذلك على غير ما كان عليه الإنكليز والفرنسيون، اللذان أمعنا طويلا في التجسّس على بعضهما (وعلى غيرهما)، وخاضا في ما بينهما حروبا غير قليلة، دامت إحداها أكثر من مائة عام (1337 – 1453). ويأتي الكتاب، المُقرَّظ هنا، على وقائع عديدةٍ تتّصل بأنشطةٍ استخباريةٍ وتجسّسيةٍ مهولةٍ على بعضهما، كما يعتني بتجارب ألمانيا (في زمن هتلر وغيره) والاتحاد السوفياتي (في الحقبة الستالينية وغيرها)، في أزمنة الحروب ومقدّماتها، وبالتركيز على فكّ الشيفرات ومراقبة الاتصالات اللاسلكية، وغير ذلك كثير.
نغيب نحن العرب في الكتاب (لبؤس مخابراتنا مع أعدائنا أم لتجبّرها على المواطنين؟)، ولكن يحضُر المسلمون، لمّا كان صاحبُ البريد "عينَ الخليفة"، ولمّا وزّع هارون الرشيد 1700 امرأةٍ عجوزٍ في بغداد، لينقلن إليه أخبار العائلات المختلفة. ويحضُر من الصين القديمة حديثٌ مسهبٌ عن كتاب "فن الحرب" للقائد الصيني سن تسو (551 – 496 ق.م)، حيث تعاليمُه عن الجواسيس وأصنافِهم ما زال يُعتدّ بها. كما كتابٌ مجهول المؤلف من الهند القديمة، اسمُه "الأرثا ساسترا"، يوصَف هنا بأنّه متميّز، وذو قيمةٍ كبرى، وما زال معتبَرا لدى أهل السلطة في الهند، يقوم على سوء الظنّ بطبيعة البشر، وعلى أن عامّة الناس خطرٌ محتملٌ على سلطة الملك، وأن ممارسة الحكم بلا مراقبةٍ أو تجسّسٍ أمرٌ لا يُعقل مطلقا ... .
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.