كلهم دواعش

26 يونيو 2014
+ الخط -

لا أظنّ أن منظمة سياسية، أو عسكرية، أو نضالية، أو إرهابية، في تاريخنا المعاصر، استفادت من الإعلام كما استفادت منه داعش! حتى لأكاد أن أقول إن داعش، برمتها، صناعةٌ إعلاميةٌ كاملة من اللاشيء، ولا يمنعني من ذلك التأكيد سوى صور تحرص داعش على ترويجها، تأكيداً على وجودها الحقيقي في ظلال الإعلام، كما يبدو!
وعلى الرغم من كل هذه الضجة الإعلامية الهائلة التي رافقت صعود نجم داعش في الفضاء العربي، وربما العالمي، إلا أننا، حتى الآن، لا نعرفها على وجه الدقة أو اليقين. لا نعرف الكثير عن نشأة هذا التنظيم، ولا تاريخه ولا مكوناته ولا عقيدته ولا أفكاره ولا رموزه أو قادته. لا نعرف سوى صور الرؤوس البشرية المقطوعة التي يدحرجها من يفترض أنهم أعضاء في داعش هنا وهناك، وتختلط فيها الحقيقة بالخيال، والواقع بالفوتوشوب، والدماء بالابتسامات المتشفية، وتتصادم فيها التفاصيل الصغيرة في مشاهد فانتازية مقززة، ففي وقت نرى فيه رأساً مقطوعة يمسك بها داعشي، مبتسماً بتشفٍ رخيص، نرى هذا الداعشي في صورة أخرى وهو يلعب البليستيشن في غرفة مع أصدقائه!
سألتني جارتي، وهي سيدة في العقد السادس من عمرها، ومتابعة جيدة للأخبار، عن داعش؛ من هو؟ وما جنسيته؟ وكم عمره؟ وماذا كان يعمل؟ ولماذا لا يقتلونه ويخلصوننا منه؟
جارتي تعتقد أن داعش رجل ذو خصائص "سوبرمانية"، مكّنته من أن يقوم بكل هذه الأعمال التي زرعت الخوف في نفوس كثيرين، حتى ممن لا يقعون في دائرة اهتماماته الجغرافية! ولست ألوم جارتي على اعتقادها هذا، فمتابعون ومهتمون بالشؤون السياسية كثيرون يصلون في فهمهم داعش إلى النتيجة نفسها، حتى وإن كانوا يعرفون أنه تنظيم متطرف، يرفع راية سوداء مختومة بختم الدولة الاسلامية في الشام والعراق شعاراً له، ويعمل على تحقيق مقتضيات هذا الشعار، كما يفهمونه فقط، ووفقاً لأساليب العصور الإسلامية الأولى وتقنياتها في الشكل وحسب. وأيضاً، لا لوم على من لا يعرف تنظيم داعش، إلا من خلال هذه الصورة التي روجها الإعلام بكل معطياته، وقدمه لنا بهذا الشكل النمطي المتكرر؛ شباب بلحى طويلة، وملابس لا تنتمي إلى العصر غالباً، بأسماء وكنى مستلة من كتب التاريخ، بوضعيات فوتوغرافية تقليدية، مما يدل على تفكيرٍ ذي طابعٍ طفوليٍ متأخر لدى معظم أفراد هذه الجماعة الذين أولوا الشكل، بمعانيه المختلفة، كل اهتمامهم "الإسلامي"! ومع هذا كله، استطاعوا، في فترة وجيزة، أن يصبحوا رقماً صعباً في المعادلة الاستراتيجية على أرض الواقع العربي الراهن، على الرغم من أن معظم تقديرات المحللين المهتمين بالأمر تشير إلى أن عددهم لا يتجاوز بضعة آلاف موزعة ما بين سورية والعراق، وهو عدد قليل، بمقارنته مع جيوش هذه البلاد وحجم الارتباك الذي شعرت به في مواجهتهم!
وعلى الرغم من هذا كله، نحن لا نعرفهم، ولا يجتهد أحد ممن يفترض به الاجتهاد على هذا الصعيد في تعريفنا بهم، وليس أمامنا، حتى الآن، سوى أن نتعرف عليهم، من خلال بشاعة مشاهد الرؤوس المقطوعة في مقاطع الفيديو وطريقة نحرها على أيدي هؤلاء المكبرين باسم الله، فهل هذا هو المطلوب؟ أن يتعرف المواطن العربي عليهم بهذا الشكل المفزع، ليرضى بكل شيء غيرهم؟
قد يكون عدد الرؤوس التي ألقتها داعش على قارعة الجهاد المزيف كبيراً، لكنه، في كل حال، لن يتفوق على عدد الرؤوس التي ألقتها على قارعة الأمن الوطني أنظمة عربية كثيرة. فهناك من قتل شعبه بالكيماوي، ومن قتله بالبراميل المتفجرة، ومن قتله بالرصاص الحي، ومن قتله تجويعاً، ومن قتله تآمراً، ومن سلمه إلى العدو لقمة سائغة، و... تعددت الأساليب والقتل واحد، فكلهم دواعش!
ستنطفئ نار داعش في الأرض، ويخبو نجمها في السماء، سريعاً كما انطفأ ما قبلها، عندما ينتهي دورها في المسرحية! لكن التطرف باقٍ، وبأشكال مختلفة، سواء كان اسمه القاعدة أم داعش، أم غير ذلك، ما دامت العدالة غائبة، فالتطرف نتيجة حقيقية لغياب العدالة! وفي مناخات الحرية والانفتاح وقبول الآخر والعدالة وإعطاء كل ذي حق حقه، لن نجد داعش ولا غيرها بين ظهرانينا، فإن لم يكن ذلك لن نأمن على ظهرانينا من شيء.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.