كاميرا اللغة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
في أثناء قراءة عمل أدبي، وخصوصا الرواية، في حالة الوقوف أمام وصفٍ متقن، كثيرا ما يُقال إنه يشبه التصوير بالكاميرا، أول اللقطة السينمائية، نظرا إلى دقّته. لا شك أن الكاميرا، وخصوصا السينمائية، قطعت أشواطا كبيرة في إتقان التصوير وتقريبه (وأحيانا بمشاعر صامتة فياضة) للمتلقي. تطوّرت الكاميرا إلى درجة أنه يمكننا الاستغناء أحيانا عن الكلام في فيلم كامل، كما يحدُث مثلا مع السينما التعبيرية (برزت في ألمانيا في أوائل القرن العشرين) التي تعتمد على تكثيف مشاعر اللقطة كما تنفتح تقنيّاتها على الفن التشكيلي والمؤثرات الموسيقية. ولكن يجب الاعتراف هنا بأن الوصف السينمائي، عبر الكاميرا، لا يمكن أن يتفوق على اللغة، فحين نقول إن الوصف الفلاني متقن إلى درجة أنه يُشعرك وكأنك تشاهد لقطة سينمائية، فهذا مقبول إلى حدود إمكانات هذه الكاميرا من تصوير دقيق. ولكن الكاميرا لا يمكنها أن تصوّر كل شيء، لأنها عاجزة، عن غير مجموعة من الأمور، لأنها ما تزال في طوْر التطور. وهذا دليل على احتياجاتها التقنية (ونقصها) الذي يدفعها إلى البحث في كل مرّة عن نقلة جديدة.
ولكن اللغة في وصفها تتفوّق بمراحل عن عين الكاميرا، وأهم أسباب هذا التفوق هو، وإن كانت الكاميرا في بلاغتها تتمكّن من نقل ليس الصورة العينية فقط، إنما كذلك حتى المشاعر المصاحبة لها، ولكن الكاميرا تنقل الصور بإمكاناتها الذاتية، وتنقل المشاعر بالاستعانة بمؤثّرات خارجية، كالموسيقى والديكور واللبس مثلا. ستفهم مثلا حين ترى طفلا رثّ الثياب ملطّخا وجهُه بأنه يعيش حياة فقيرة بائسة، وحين إدخال مؤثر موسيقي حزين مثلا ستفهم أن حياته ليست بائسة فقط، إنما حزينة أيضا. ولكن اللغة تفعل ما هو أكبر. اللغة في الحقيقة لا حدود لإمكاناتها، وما تفعله من الصعوبة أن تنقله الكاميرا بتفاصيله. لذلك نرى أن الأفلام المأخوذة عن الروايات لا تُغني عن قراءة الروايات. بل العكس صحيح. يُمكنك، مثلا، مشاهدة مئات الأفلام التي استمدّت مادتها الدرامية من كتاب ألف ليلة وليلة، حيث عملت عن هذا الكتاب العربي الخالد أفلامٌ لا حدود لها في الغرب وفي اليابان وبلدان كثيرة. وللأسف، لم يستثمر العرب كتابهم جيدا في سياقات السينما. ولكن هذه الأفلام لا يمكن أن تغنينا عن قراءة "ألف ليلة وليلة"، بل يمكنك أن تستغني عنها لصالح الكتاب.
هناك من يصنّف "ألف ليلة وليلة" أدبا رخيصا، وفي ذلك مغالاة. وأتذكّر أن المعجمي عبد الغني أبو العزم قد أورد في قاموسه فصلا كاملا مليئا بالشواهد على حضور الجانب الديني في "ألف ليلة وليلة"، إذ تستعين شهرزاد في محكّياتها بالقرآن الكريم والسنة النبوية والشعر. ولكن الأهم في هذا السياق أن ما تراه من وصف في هذا الكتاب النفيس لا يمكن أن تعكسه الكاميرا بسهولة. بل إنه حتى في الشعر، كيف مثلا يمكنك أن تصور "بالكاميرا" بيت المتنبي (المصوّر باللغة) الذي يجعل للجوزاء أذنا تسمع دويّ المعارك. في بيت شعري محدود، يجمع المتنبي بقدراته العظيمة جيشا كاملا، بل كذلك الأرض شرقها وغربها ويدخل معها حتى الجوزاء: "خميس بشرق الأرض والغرب زحفه/ وفي أذن الجوزاء منه زمازم". أو بيت أبي تمام في وصف معركة عمورية، الذي يجعل القارئ يشعر بطعم الحليب الذي يخرُج ممزوجا بالعسل من ضرع الشياه: "يا يوم وقعة عمّورية انصرفت/ منك المنى حُفَّلا معسولة الحَلَب". والحفل هي الشاة أو الناقة الحلوب. وكيف شبه المُنى بهذا الوصف الآسر. والأمثلة في الشعر كثيرة.
وإذا تحدّثنا عن الوصف في الرواية اكتشفنا أن الصورة أو اللقطة السينمائية، رغم أهميتها الكبيرة، لا يمكنها أن تفيه حقّه، فلدى اللغة القدرات الهائلة، وما يسندها من تشبيهاتٍ واستعاراتٍ على نقل ليس فقط الصورة المتاحة، إنما حتى بثّ الحركة فيها، وإيصالها إلى أقصى حدودها من التعبير. أورد هنا مثالا عن روايات حوّلت إلى أفلام، حين قرأت رواية "بقايا اليوم" لكارو إيشي جيرو، الفائز بجائزة نوبل، في صفحات وصفه الساحر الريف البريطاني، شعرت بقوة الكلمات. ولكنّي حين شاهدت الفيلم رأيت أن الكاميرا استطاعت أن تنقل كل شيء، ولكنها عجزت أمام نقل الانفعالات ومساحات التأمل التي احتشدت في أثناء قراءتي وصف الطبيعة البارع.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية