قناة السويس والشفافية الغائبة
جوهر المشكلة في موضوع صندوق قناة السويس هو غياب الشفافية عن صنع القرار، إذ لا أحد في مصر في وسعه تحديد من يصنع القرار وكيف. ثم على أي أسس أو معايير يتم اتخاذ قرار ما وتفضيله على بدائله، إن كانت هناك بدائل مطروحة أصلاً، فالمؤسسات المناط بها التخطيط ووضع السياسات وطرح البدائل، والمفترض أنها جهات حكومية، هي نفسها التي نُفاجأ بها تطرح مشروعات قراراتٍ وقوانين ويوافق عليها البرلمان. وما إن يبدا التنفيذ إلا وتظهر مشكلات وعقبات عملية وإجرائية، تضطرّ الحكومة إلى التراجع ووقف تنفيذ القرار أو تطبيق القانون، للمراجعة وإعادة النظر فيه. وتكرّر هذا التسلسل مرّات عدة في الأعوام الأخيرة. بل صار يحدُث تقريباً مرة على الأقل كل شهر. الأمثلة كثيرة، فقبل أسابيع، صدر قانون بتعديل (بالأصح تعقيد) إجراءات ترخيص المحالّ العامة. جوهره استحداث الموافقة الأمنية شرطا لترخيص حوالي 84 نشاطا تجاريا وخدميا، شملت تقريباً كل مناحي الحياة. بما فيها أبسط الخدمات، مثل إصلاح الأحذية وصالونات الحلاقة وغيرها. بل اشترط القانون هذا على "المراحيض العمومية" التي لا تنشئها إلا الحكومة نفسها. أي أن الحكومة قبل بناء تلك المراحيض مطالبة، وفقاً لهذا التعديل، باستصدار موافقة الجهات الأمنية التي يُفترض أنها تابعة للحكومة وليس العكس!
قوبل التعديل الهزلي بضجّة كبيرة وسخرية واسعة، دفعت الحكومة إلى التراجع، واستبعاد عدد من الأنشطة المقحمة عليه بلا مبرّر، هذا بافتراض وجود مبرّر للتعديل أصلاً. والمدهش أن شقّاً لا يستهان به من تلك الضجة، جاء من أعضاء في البرلمان المصري، رغم أنه نفسه البرلمان الذي يوافق دائماً وبسلاسة على تلك القوانين من دون أي اعتراض.
وها هو المسلسل نفسُه يتكرّر في موضوع شديد الأهمية بل والخطورة، وهو الصندوق الخاص بقناة السويس. والذي يقضي بتأسيس صندوق خاص لمرفق قناة السويس، وتضمّنت بنوده صلاحيات استثنائية، منها التأجير والاستئجار والبيع .. نعم "بيع" الأصول الخاصة بهذا الصندوق. وظهر مشروع القانون فجأة، من دون حوار مجتمعي أو استشارة للخبراء والمختصّين. وبلا أي شفافية في الإدارة واتخاذ القرار.
وبعد أن خرج المشروع إلى النور، توالت ردود الفعل بين رفض واستياء ودهشة وتساؤل. ويرجع هذا التباين في المواقف أيضاً إلى الغموض الذي أحاط بالقصة من البداية. والذي استمرّ أيضاً في تعاطي الحكومة مع الضجّة المثارة، فبدلاً من توضيح الموقف بأدلة وشواهد قاطعة، إذا بالمسؤولين يُصدرون تصريحاتٍ وبيانات أقل ما توصف به بأنها "استغفال" للشعب، فقد حرص المسؤولون على النفي القاطع لوجود نوايا أو احتمالات لبيع قناة السويس. ولم يُجب أي منهم عن تساؤل بسيط عن سبب إدراج لفظ "البيع" في بنود القانون. ولم يكلف أحدٌ خاطره بشرح ماهية الأصول التي تتبع الصندوق، وأوجه الاختلاف بينها وبين "أصول" القناة نفسها، وإلى أي جهة ستكون تبعية ذاك الصندوق، وإلى أين ستؤول مكاسبه أو خسائره، والاختلاف في المركز القانوني والصلاحيات المخولة إلى الصندوق الجديد، وتلك الخاصّة بهيئة قناة السويس، التي تدير وتتحكّم في شؤون القناة منذ عقود، فضلاً عن غموض مستقبل الكيان الذي استحدث قبل أعوام قليلة باسم "المنطقة الاقتصادية لقناة السويس".
بدلاً من توضيح مفصّل وقاطع لتلك التداخلات، انتهج المسؤولون المصريون لغة شعبوية، وراح الإعلام الموالي يردّد شعارات استنكارية من شاكلة "من يجرؤ؟" و"هذا خيال" و"من المستحيلات". ولأن لغة العلم وقواعد الإدارة لم تعد متداولة في مصر، فاتساقاً مع تلك الشعبوية الرسمية، على المسؤولين في مصر تقديم إجابة دقيقة بشأن ما يحول دون ترجمة الخيال إلى واقع، وكيف ومن يضمن عدم تحقق ذاك المستحيل.