قمّة المليون دولار
رحم الله الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد برّي، الذي تجشّم، ذات مرّة، عناء السفر من بلاده التي كانت تشهد حربًا أهلية آنذاك؛ لحضور إحدى القمم العربية، وعندما حان دوره لإلقاء كلمته في الجلسة الافتتاحية، توقع الجميع أن يتحدّث عن تلك الحرب الطاحنة وأسبابها، وسبل الخروج من أتونها، وعن ضرورة بذل مساعٍ حميدة من أشقائه العرب لوقف الكارثة التي تمزّق الصومال، غير أنه فاجأ الجميع بخطاب مقتضب، لم يطلب فيه سوى تقديم مساعدة عاجلة لبلاده قدرها مليون دولار.
أرجّح أن الرئيس برّي حصل على المليون دولار نقدًا في الجلسة نفسها، إذ يكفي أن يدسّ أي زعيم حاضر، وقتها، يده في جيبه ويخرج المبلغ، مع رهاني أن الرئيس عاد إلى بلده عودة الفاتح، وليخبر من تبقّوا من شعبه أن القمة كانت "ناجحة" بكلّ المقاييس، بدليل أن الصومال حصلت على "نهاية الأرب من قمة العرب". ولكن كان من الواضح، بعد أن أطيح الرئيس من سدّة الحكم عقب القمة بأشهر قليلة، أن المليون دولار كانت مطلبًا شخصيًّا لرئيسٍ كان يستشعر نهايته القريبة.
وتشاء المصادفات أن يتكرّر مشهد الرئيس برّي، في قمة جدّة أخيرًا، والتي بدأ قرع طبولها قبل موعدها بشهر، مع اختلافٍ طفيف، أنها لم تكن قمّة عربية خالصة العرق والأهداف، ولم تكن الدعوة إليها عربية أيضًا، وإنْ طغى الحضور العربيّ فيها، بل جاءت برغبة أميركية عارمة، معروفة الدوافع والبواعث، لكن ما يهمّ فيها فقر المطالب العربية التي ضخّمها زعماء مشاركون في القمّة، وعادوا إلى بلادهم تغمرهم بهجةٌ تفوق سعادة الرئيس محمد سياد برّي بالمليون دولار إياها.
عاد كل زعيم إلى بلاده، ليزفّ بشراه، بالإنجاز، وراحت الصحف ووسائل الإعلام الرسمية في كل دولة تتحدّث عن "مليونها"، فالأردنّ تصدّر صحفه نبأ "التوكيد الأميركي على الوصاية الهاشمية على القدس"، والصحف المصرية تغنّت بوقوف أميركا إلى جانب قلق القاهرة من تبعات إنشاء سدّ النهضة الإثيوبي، والصحف القطرية أبدت ارتياحها لدعوة أميركا إلى إنجاح المونديال الذي تنطلق فعالياته نهاية العام الحالي، فيما كان الهمّ السعودي منصبًّا على ضرورة إغلاق ملف جمال خاشقجي أميركيًّا، وهو ما تحقق فعليًّا بمجرّد أن وطأت أقدام بايدن الأراضي السعودية، وتواصله مع وليّ العهد السعودي، ولو بقبضات الأيدي. وعلى الغرار ذاته، تكرّرت "الطنطنة" في بغداد وبقية العواصم المشاركة.
في المحصلة؛ عاد الجميع بـ"مليونه" الأثير، من قمّةٍ كانت تعدُ بالكثير، لو كان الزعماء المشاركون أزيد طمعًا في الغنيمة من الإياب فقط، لكنّ الزهد السياسي العربي الخجول، والذي لا يظهر إلا عند التعامل مع أميركا والغرب عمومًا، أبى إلا أن يعيد إنتاج نفسه، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتساءل: ما الذي جناه المشاركون العرب من قمّة جدة؟ هل كان في وسع أميركا أو غيرها أن تجرّد الأردن من وصايته على القدس، مثلًا، على الرغم من أن هذه الوصاية دمغت بمباركة من السلطة الفلسطينية ذاتها صاحبة الشأن، وأيضًا من العالمين، العربي والإسلامي؟ وهل في مقدور أميركا أن تشكّك بحقّ مصر في حصّتها التي تقرّها الشرائع الدولية كلّها من نهر النيل؟ وهل يجوز لأميركا التي اغتالت ملايين البشر حول العالم إبقاء ملف خاشقجي مفتوحًا، على الرغم من إغلاقه في تركيا، البلد المعنيّ به قبل غيرها؟
أسئلة شتّى تبعثها هذه القمة الغريبة، تترافق مع شكوكٍ تدفع إلى اليقين بأن ما تمخّض عنها لا يعبّر عما أريد منها فعليًّا، فهل كانت هنالك قمة خفية موازية، ببيان ختاميّ لم ينشر على الملأ؟ على الأرجح هو كذلك؛ لأن أميركا لا تجازف بالمشاركة في قمةٍ غير معلومة النتائج سلفًا، حتى وإن كان المشاركون عربًا يجتمعون وفق نظام "الفزعة".. فهل تتكشّف النتائج تباعًا عن أزيد من "المليون دولار؟".. ربما.