قمرٌ أزهرُ غير أزرق
ليس لونُه أزرق، القمر الذي شوهد في بعض الليلة قبل الماضية (الخميس)، في غير بلدٍ، بدراً أوسع، وأكبر، من معهودِه الذي نعرف، لكنهم (من هم؟) لمّا دَعونا إلى أن نترقّبَه، ونغتبط به، ونلتقط له الصور، سمّوه القمر العملاق الأزرق (Super blue moon). ما عُدّ ليس دلالةً على اللون، بل للتأشير إلى ندرة ظهوره في حاله هذا، ليس فقط في دائريّته الأكثر، وفي اكتماله تماماً، بل في أنه في أقرب نقطةٍ من الأرض، لا يقيم عليها عادةً، بل يصل إليها في مواقيت يعرفها الفلكيون وعلماء الأجرام والكواكب. لقد بدا على شيءٍ طفيفٍ من حمرةٍ باهتةٍ خفيفةٍ مع صفرةٍ غافية، كأنه أزهر، وهذا لونٌ نادرٌ نألفُه في نباتاتٍ وورود. ليس أساسياً، ليس كما الأزرق الذي قلّما نلقاه لوناً لنباتاتٍ وورود. تزيّنت به السماء، وأخَذت له الكاميرات صوراً مذهلة، بديعة، فوق القدس وشيكاغو وأثينا والقاهرة والدوحة وعمّان واسطنبول و...، وهو القمر الذي انصرفت له الأشعار تخصّه بأوفى مراتب الجمال. لقد بدا في لحظاته هذه، لمّا عوين بدراً أزهر، كأنه الذي قصدتْه الخنساء في وصفها أخاها صخراً وهي ترثيه: أغرُّ أزهرُ مثلُ البدرِ صورتُهُ/ صافٍ عتيقٌ فما في وَجْهِِه نَدَبُ.
وفي الوُسع أن نحدس أن تماضر بنت عمرو (الخنساء) قد شاهدت القمر بدراً أزهر، ذات ليلةٍ في صحراء. وقد أخبرنا دارسو الشعر الجاهلي (وبعض القديم) أن القمر كان لوصف الرجل في رِِفعته ومهابتِه وشهرته لدى شعراء ذلك الزمن، فيما الشمسُ لوصف حُسن المرأة وملاحَتها، قبل أن يشقّ الشعر العربي مجرىً آخر له في هذا الأمر، ليخلَع على المحبوبات والمعشوقات أنهنّ كالقمر أو أحلى منه أو يجعلنْك في حيرةٍ، في ما إذا كانت واحدتُهن القمر نفسَه. وهذا أبو المظفّر الأبيوردي (عاش في القرن الخامس الهجري) يقول: ولي إذا خالستْني القولَ أو سفرت/ عن وجهِها ما اشتهاه السمعُ والبصرُ. ... فلستُ أدري وذيل الليل يستُرُنا/ أتلك في حُسنها أبهى أم القمرُ.
كان القمر في شعر الجاهلية قليلَ الحضور، حتى تتابَع ظهورُه أكثر وأكثر، وصولاً إلى أن ضجّ في الشعر الحديث على غير كيْفٍ ورمزٍ ومغزى، حتى إنه أخاف محمود درويش، فيطلُب من امرأةٍ يخاطبها أن تخبّئه.. من القمر (سجّل الباحث الفلسطيني حسين حمزة أكثر من مائتي صيغة للقمر في شعر درويش). ووجدَه أمل دنقل مقتولاً "... شهدوه مصلوباً تتدلّى رأسُه فوق الشجر". ومبحثٌ كهذا يتقصّى انعطافات القمر وتمثيلاته في مسار القصيدة العربية، قديمِها وجديدِها، طويلٌ ورحبٌ، ومثيرٌ وممتع. وفي الأغنيات، ثمّة القمر للعتاب والمناجاة ومراودة الحبيب، ولغير أمرٍ وشأن (يا لغيابه، في أغنيةٍ لشادية بألحان محمد الموجي، ويا لمهمّته رسولاً إلى الحبيب، في أغنيةٍ لوردة بألحان بليغ حمدي). غير أن القمر أبداً لم يكن أزرقَ في أيّ قصيدةٍ أو أغنية. ظلّت الزُّرقة للبحر والسّماء، وبقي بلا لونٍ أو أبيض. وعلى ما يشيعه اللون الأزرق، في درجاتِه قاتماً وفاتحاً، من إحساسٍ بالهدوء والسكينة والحنين، وبالوقار أحياناً، وبالقوّة ربما، إلا أنه قد يوحي بإحساسٍ بكآبةٍ ما. ولعل الحيرة والالتباس اللذيْن يُحدثهما السؤال عمّا يكون الأزرق في قصيدةٍ لصديقنا الراحل الباقي محمّد القيسي هما ما يجعلها قصيدةً جميلة، بإيقاعها ونبْرتها وبالإحساس الذي تُشيعه بالارتحال، وقد أعطاها عنوانَها "الأزرق"، ومنها: "..../ أيها الأزرقُ المبتعد/ لم أجد لهواي سريرا/ يفلتُ الموجُ مني أخيرا/ لم أجد آنيةً/ لدمي/ لم أجد قافيةً/ في فمي".
كان القمر في طلّته، في غير زُرقته التي أذاعوها عنه، في صُفرته الخفيفة المُزهرة التي شدّت أبصارَنا وأخيلتنا، أكثر إضاءةً (بنسبة 30%)، وأكبر حجماً، بلا حوافّ، مُفرِطاً في اكتمالِه، يُنبئك اتّساعُه بعظيم مكانته، وهو الذي حضر في 27 آية قرآنية كريمة، منها "تبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً". القمر الذي ينيرُ، ويبثّ في النفس، عند التطلّع إليه عالياً في أي سماء، مقاديرَ من الطمأنينة، وراحة بالٍ أحياناً، لن يصير أزرق، بل يعصى عليه هذا، لكنه يلوّن أرواحَنا بالذي يفيضُ في النفس والحشايا من أحاسيس وخلجات. وفي أسطورةٍ أفريقيةٍ قديمة، يتحطّم القمر مرّة كل شهر، والنجوم حُطام القديم منه. لا نراه هكذا، ولن نراه على شيءٍ من هذا، وإنما نلتمسُ منه ردّ حُزنٍ أو سويداء، أو مدَّنا بدَعةٍ وحنان.
سيعودُ القمر على هيئتِه هذه، أزهرَ غير أزرق، بعد 14 عاماً، أطال الله أعمار الجميع.