قمة جدة والحضور الأميركي
بعد ترقّب استمر أسابيع لزيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى المنطقة، وعقد قمة مع زعماء عرب في السعودية، وبعد تحليلاتٍ كثيرة عن الأجندة التي يحملها بايدن إلى المنطقة، ها هي الزيارة تنتهي على غموضٍ يخالف كل ما راج من معطيات سابقة، فكل ما نشر بعد الإعلان عن جولة بايدن، لم يظهر لا في البيان الختامي للقمة، ولا في خطابات الزعماء المشاركين، أو في المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان.
يمكن تذكّر مجموعة النقاط التي راجت إعلامياً فور الحديث عن هذه الزيارة، يأتي في مقدمها ربما السعي إلى تشكيل "ناتو عربي" في مواجهة إيران. ورغم أن أحداً لم يتبنّ رسمياً هذا التسريب، إلا أن ملك الأردن، عبدالله الثاني، تعاطى معه كحقيقة خلال حوار تلفزيوني مع قناة "سي أن بي سي"، وأعلن تأييده إنشاء مثل هذا الحلف "تكون مهماته واضحة". إلا أن وزير الخارجية السعودي، مع نهاية قمة جدة، حرص، في المؤتمر الصحافي، على التأكيد أنه "لا يوجد شيء اسمُه ناتو عربي".
ويمكن التسليم بأن فكرة هذا التحالف إسرائيلية بالأساس، مدعومة من بعض الدول العربية، ومن غير المستبعد أن ترويجها جاء من تل أبيب لحضّ الرئيس الأميركي على طرح الفكرة، والعمل على إدماج إسرائيل في المنطقة. وبايدن، وإنْ تعهّد، فور وصوله إلى تل أبيب، بالعمل على تحقيق هذا الهدف، أي دمج إسرائيل في المنطقة وتحسين علاقاتها مع محيطها، لكنه لا يبدو أنه نقل هذا الأمر إلى جدة، على الأقل ظاهرياً، فبن فرحان حرص أيضاً على نفي طرح فكرة التقارب مع إسرائيل في القمة، قائلاً إنه "لم يُطرح ولم يُناقش أي نوع من التعاون العسكري أو التقني مع إسرائيل".
ربما "الإنجاز" الوحيد الذي يُحسب لبايدن في هذا المجال إعلان السعودية، ضمناً، فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الإسرائيلية. لكن أيضاً عملت الرياض على قطع الطريق أمام التأويلات التي خرجت مع هذا الإعلان، وبأنه تمهيد لخطوات لاحقة في إطار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، إذ شدّد بن فرحان على أن القرار "لا يعني أي تمهيدٍ لقرار لاحق". العلاقة مع إيران والتحالف ضدها كانا كذلك من ضمن التسريبات الإعلامية لأهداف جولة بايدن، والتي يبدو من تصريحات بن فرحان أنها أيضاً لم تكن على جدول أعمال القمة، إذ أكّد أنه "لم يكن هناك أي رسائل من إيران إلى قمّة جدة". وزاد على ذلك إعلان أن "يد المملكة ممدودة للجارة إيران للوصول إلى علاقات طبيعية"، مشيراً إلى أن "المحادثات التي جرت مع إيران إيجابية لكنها لم تصل إلى نتائج".
النقطة الإضافية لأهداف الجولة، بحسب التحليلات الإعلامية، كانت مرتبطةً بحثّ دول الخليج على زيادة إنتاج النفط، لتعويض خفض الإمدادات الروسية بعد الحرب على أوكرانيا. ولعل هذا المعطى هو الأكثر واقعيةً في كل ما سبق، خصوصاً أن بايدن سبق أن تحدّث عنه خلال قمة الثماني قبل أسابيع، بحسب التسجيل المصوّر له مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والذي أبلغه فيه أنه تحدّث مع رئيس الإمارات، محمد بن زايد، ليطالبه بزيادة الإنتاج، إلا أن الأخير رفض، وطلب منه الحديث مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ومع ذلك، لا يبدو أن بايدن نجح في نيل ما يريد في قمّة جدة، مع التشديد السعودي على أن لا مجال لزيادة إضافية في الإنتاج، وهو ما عبّر عنه بن سلمان في كلمته، فيما شدّد بن فرحان على أن موضوع إنتاج النفط "لم يناقش في قمّة جدة، و(أوبك بلس) تواصل عملها لتقييم الأسواق وما تحتاجه".
بناء عليه، من الواضح أن كل التحليلات والتسريبات عن أهداف الزيارة لم تكن صحيحة، وأن هدفاً واحداً دفع بايدن إلى المشاركة في قمّة جدة، وهو التأكيد على أن الشراكة الأميركية مع دول المنطقة لا تزال قائمة بقوة، حتى مع الخروج الأميركي الميداني منها، وقطع الطريق على أي محاولةٍ روسيةٍ أو صينيةٍ لملء الفراغ، والذي حرص بايدن على التأكيد أنه ليس موجوداً.