16 نوفمبر 2024
قصائد شاعر مخطوف
قصائد أشبه بالهمس، طَلْقة، فيها فائضٌ من التمهّل، معتنيةٌ بما توحي به، بما تُشيعه من شعور، لا بما تقولُه، أو تنطقُ عنه. يحضُر فيها الليل، وملوكٌ ومهرّجون، والخيبةُ والفرح أيضا. جمالُها في المفارقة التي تُنبئ عنها، في الكثافة المفرطة، في الاحتفال بالأنا المُفردة، في الجملة المكتفية، في الصور التي لا يبدو الشاعر شغوفا ببنائها، لا، وإنما في الحالة الشعورية التي يريدها أن تغشاك وأنت تقرأ، ولو لم تُعجبك النثرية الغالبة أحيانا، والمفردات المبذولة أحيانا أيضا. غيومٌ ونساء، وطغاةٌ، وأحلامٌ خافتة، وضوءٌ يطلع من كلامٍ قديم، وعلاماتُ تعجّبٍ لا مدعاة لها، وأشياءُ يحبّها الشاعر، وأخرى يكرهها.. هذا كله، وكثيرٌ غيره، ملمومٌ في عشرين قصيدة، يوجِز بعضُها العالم في دفقتين أو أقل، وأخرى تتّسع لصفحاتٍ أكثر، بمقاطع توزّع العالم في هوامش وإحالاتٍ وتداعيات، وعناوين أخرى. اجتمعت هذه القصائد في 94 صفحة، بعد مقدّمتين لصديقين للشاعر، في ديوان اسمه "ضدّ".. هكذا فقط، عنوانٌ يخبرك سلفا بأنفاس الاحتجاج والاعتراض التي في القصائد.
الشاعر هو ناظم حمّادي (مواليد 1968)، المغيّب بعد خطفه، قبل خمس سنوات، بالضبط في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2013، مع رفاقه الثلاثةـ رزان زيتونة وزوجُها وائل حمادة وسميرة الخليل. وفي أثناء غيابه الكثير الفداحة، والذي لا يبعث على غير التفجّع والغضب، أصدرت دار ميسلون، في غازي عنتاب، هذه المجموعة "ضدّ"، في العام الحالي (2018). تُبلغنا دار النشر، وأصدقاءُ الشاعر، أنها كانت مهيّأة لديه، إلى حدّ ما للنشر، قبل الواقعة المفزعة. وهنا، يحسُن تثمين بادرة الزملاء في دار ميسلون، الطيّبة والبديعة هذه، فليس أبلغ من تحيةٍ للشاعر حمّادي مثل هذه أن تُحْمَى أنفاسُه، التي أرادها قصائدَ، من التغييب والغياب. والبادرة، في معنىً ما، تقاوم ما أراده المجرمون الذين ارتكبوا فعلة الخطف والإخفاء لأربعةٍ من ألمع السوريين، وأنظفهم، وأصدقهم انتسابا إلى بلدهم، وإلى ثورة ناسه وألمهم. كانوا يشتغلون على توثيق جرائم الفتك والقتل والحصار التي يرتبكها النظام الغاشم في أثناء الثورة المغدورة. كانوا هناك، في دوما في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، لكن أيادي آثمة، يُشتبه، إلى حدّ بعيد، يصل إلى منزلة التأكيد، بأنهم من التشكيل المسمّى "جيش الإسلام"، هي من فعلت الجريمة.
تقرأ قصائد "ضدّ"، ويحتلّ مداركك، في الأثناء، أن كاتبها، ناظم حمّادي، مخطوف، مغيّب، لا خبر عنه. وأنه كان محاميا، مشغولا بحماية ضحايا جرائم المستبد الطاغية في سورية من النسيان. تُصادف نصّا لأختٍ له تذكُر فيه أنها كانت تلحّ عليه، من تركيا، ليخرج من سورية، في غضون استباحة السلطة، وخفافيش الإرهاب الطارئين، البلاد والعباد، فكان يجيبها بأنه، وكل السلميين الذين ينتمي إليهم، إذا تعبوا وتركوا سورية وهاجروا، ذلك سيعني أن تُتْرَك الكلمة الأخيرة للسلاح. توضح أختُه أن شقيقها كان من أشد معارضي تسليح الثورة. .. هذا لأن ناظم شاعرٌ حقيقي، فكيف لفنانٍ، يهجس أساسا بالجمال، أن يكون مع التمويت، مع قتل سوريٍّ سوريّا آخر. لقد كتب، في مجموعته الشعرية الأولى "أوراق التوت الغامضة" (دار التكوين، دمشق، 2005)، إنه لا شيء أكثر اكتمالا.. من الموت. وفي "ضدّ"، أصدقاء كثيرون يحبّهم حاضرون، يهديهم قصائد، فيها نورٌ كثير، وفيها امتلاءٌ بهم. واحدةٌ من هذه القصائد يُهديها إلى رزان زيتونة، رفيقتِه في غيابه، أقصد في حضورهما بهيّين غير منسيّين، كما وائل وسميرة. ويهدي أخرى إلى الفلسطيني الذي أمضى 29 عاما في سجون الأسديْن، ثم توفي في العام 2009، وربما تكون قصيدة ناظم إليه "دفاتر الأمير"، غير المؤرّخة (كما كل قصائد المجموعة، وإنْ أفيد بأنها مكتوبةٌ قبل الثورة)، لمناسبة الوفاة، مع التذكير بأن شاعرنا لا يؤبّن ولا يرثي، وإنما يكتب نصا لافتا: .. وأحذيةٌ ثقيلةٌ، تدبُّ في المدينة القديمة/ مفزعةً عتمةَ الليل/ لتضيء حلم الجنرالْ/ كذلك البيوتُ والياسمين والأمهات/ فقد احتضوا أمنياتهم/ مفسحين الهواءَ لخطى الجنرالْ.
هي سورية المدمّاة، بإرهاب مجرمين خطفوا ناظم ورزان وسميرة ووائل، ونبيلين جميلين آخرين، غير أربعتنا هؤلاء، سورية المدمّاة بقاتلين بلا عددٍ يحكمون، وبمحتلين مستقدمين من غير بلد، سورية التي تنتظر مشهدا آخر، لا تدبّ فيه الأحذية الثقيلة التي نعرف، ويقرأ الناس فيها قصائد ناظم حمادي، ويحبّونها، وقصائد شعراء بلا عددٍ، منها وفيها، ويغنّونها.