قتل السلطة الجندرية
تقول الأسطورة الإغريقية إن أوديب، في طريق عودته إلى موطنه، قتل أباه من دون أن يعرفه، وعندما وصل إلى وجهته، تزوّج أمه وأنجب منها، وحين اكتشف ذلك، فقأ عينيه وهام على وجهه في البراري. وتقول الأسطورة نفسها إن إلكترا، ابنة الملك أجاممنون، طلبت من أخيها قتل والدتها كليمونتين، لأنها شاركت في قتل زوجها. في الأسطورتين، يقتل الابن مثيله الجنسي الذي يمثل السلطة والقوة، وهو ما جعل فرويد يستخدمهما في أبحاثه النفسية مثالا عن العلاقة مع الوالدين، حيث غالبا ما يميل الابن نحو أمه والابنة نحو أبيها. هذا الميل هو الدافع الأول الذي يجعل الابن يقتل أباه والابنة تقتل أمها. والقتل هنا رمزي لا مادي، هو تجاوز للسلطة الجندرية المماثلة وتحالف مع سلطة الجندر المعاكس؛ فبحسب فرويد، الدافع الجنسي (اللبيدو) هو المنبع الأول للسلوك البشري، وهو ما يحرّض اللاوعي على إتمام عملية قتل الأب أو الأم رمزيا.
بعيدا عن الدافع الجنسي الذي اعتمده فرويد أساسا للتحليل النفسي، فإنّ قتل الأب أو الأم رمزيا هو أوّل الطريق نحو الاستقلالية وتكوين شخصية متفرّدة وإيجابية ومتخفّفة من العقد النفسية. ذلك أنّ غالبية ما نعانيه من اضطراباتٍ نفسيةٍ وعقد ذنب تعود مرجعيتها إلى علاقةٍ مرضية مع الوالدين، أو بمعنى أصح: إلى الأسلوب الذي اعتمدته أسرنا في طريقة تعاملها معنا منذ نشأة أظفارنا، مرورا ببداية المراهقة، وهي المرحلة الأكثر خطورة، والتي تبدأ فيها شخصياتنا بالتشكّل، إلى أن نصبح في سن النضج، حيث يكون ما اكتسبناه من الصفات والموروثات والعادات والسلوك قد حفر عميقا في ذواتنا، وبات تغييره يحتاج إلى بذل مجهود كبير ومساعدة مرشدين مختصين.
تخبرني صديقة تعيش في فرنسا أنّ ابنتها الصغرى سوف تغادر المنزل كما فعلت شقيقتها الكبرى، سوف تذهب إلى جامعةٍ في مدينة أخرى. تقول: اختارت جامعة في مدينة بعيدة عن حيث نقيم، وعن حيث تقيم شقيقتها. سألت صديقتي إن كانت حزينة بسبب قرار ابنتها، فأجابتني: نعم، لكنني أستطيع أن أتفهم هذا، لا أريد أن أكرّر مع ابنتيَ ما كانت أمي تفعله معي ومع أخواتي. عانينا طويلا حتى استطعنا الانفكاك من أسر تعلقها بنا. لا أريد هذا لهما... سألتُها عن رأي زوجها، فقالت إنّ عائلة زوجها كانت مثالية من حيث العلاقة مع الأبناء والبنات، لذلك ورث زوجها من عائلته عاطفة مرنة وصحّية، وهو ما جعل علاقته بابنتيه علاقة صداقة، وهو داعم لهما في القرارات التي تتخذانها وفي خياراتهما.
لم يحتج زوج صديقتي لقتل والديه، فعل الوالدان ذلك، شجّعا أبناءهما على الاختيار واتخاذ القرارات الفردية وتحمّل مسؤولية ما قرّروه، بينما اضطرّت صديقتي بعد جهد لقتل والدتها والانفصال عن دائرة عاطفتها المسيطرة (السلطة)، كي لا تضطر ابنتاها إلى قتلها بقسوة ذات يوم والاستقلال بعيدا عنها، وهما تحملان لها عاطفة فيها كثير من الشعور بالذنب سوف تعيقهما عن المضي في حياتهما.
والحال، معظمنا في مرحلة متقدّمة من العمر سوف ينتبه إلى أنه بات يشبه الشخص الذي أراد قتله في داخله خشية أن يشبهه. ثمّة ما لا يقدر الوعي على تجنّبه في العلاقة مع الآباء والأمهات، ليس فقط في الشكل، بل حتى في السلوك مع الأبناء. أراقب نفسي أحيانا وأنا أتحدّث مع ابنتي التي تعيش في قارّة أخرى، أشعر أنني سأتحوّل معها إلى أمي، وأنني أسلك في تأنيبي أو نصحي لها السلوك نفسه الذي كان يزعجني من أمي، أحاول تدارك الأمر فورا والتراجع عمّا رغبت بشدة قوله لها، فأنا لا أريد لها أن تقتلني ثانية، ذلك أنها فعلتها سابقا وساعدتُها أنا على فعلتها، كي نتمكّن من الوصول إلى علاقة صحية إلى حد ما، كي لا تنقل السلبي في علاقتنا لابنتها فيما لو قرّرت الإنجاب يوما.
تنجب الحيوانات أبناءها وتطعمهم وتعتني بهم وتدرّبهم على الاعتماد على أنفسهم في تأمين طعامهم وفي حماية أنفسهم من الخطر ثم تطلقهم للحياة، من دون أي إعاقة لهم لفعل ذلك، فالإعاقة تأتي من فيض العاطفة، من الملكية وسلطة المالك، والملكية واحدة من الرغبات التي نشأت مع تطور الوعي والإدراك، تتصرّف الحيوانات بغريزتها لا بوعيها، بينما نتصرّف نحن بأثر الوعي، لكن هذا الأثر قد يتحوّل أحيانا إلى عائقٍ أمام أبنائنا في سعيهم إلى العيش بسعادة، وأمام الأهل في سعيهم إلى العيش مطمئنين.