في وداع ناتاشا المعاني

05 يونيو 2023
+ الخط -

في لقائنا الأول في مقهى الفينيق في شارع الغاردنز، أول مقهى ثقافي في عمّان، وكان مقرّا لتجمع المثقفين والفنانين الفلسطينيين العائدين إلى عمّان من تونس في مطلع التسعينيات، إثر توقيع اتفاقية أوسلو، قلت لها: هناك لكنة فلسطينية واضحة في لهجتك، كيف ذلك وأنت جنوبية من مدينة معان ووالدتك شركسية عمّانية؟ قالت ضاحكة: "ما أنا عشت كل عمري بينهم". ... قفز هذا المشهد البعيد إلى ذاكرتي فور سماعي النبأ الحزين برحيلها، ناتاشا، تلك السيدة جميلة الملامح، ممشوقة القوام، القوية المرحة المعتدّة بنفسها من دون كبر، المليئة بالحيوية والتواضع والعفوية، بمظهرها البسيط الأنيق وروحها المحبّة للناس والحياة. أتذكّر مدى دهشة جمهور الفن التشكيلي الأردني بلوحاتها المختلفة، حين افتتحت معرضها "زهرة" في مدينة  الفحيص، لوحات ضخمة أقرب إلى الجداريات، تضم وجوه نساء حزينات، يعبّرن عن حالاتٍ مختلفة. 
لم تكن حياة المناضلة ناتاشا سهلة. التحقت بالجبهة الديمقراطية في السابعة عشرة من عمرها، وعايشت اجتياح بيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا وترحيل المقاومة الفلسطينية التراجيدي في البواخر المتّجهة إلى تونس. لم تكن مجرد شاهدة أو متفرّجة، بل كانت عنصرا فاعلا في المقاومة الفلسطينية، من خلال عملها في إخراج البوسترات والمجلات. تزوجت من الشاعر الفلسطيني، غسّان زقطان، وأنجبت ولديها شادي ومكسيم. لم يُكتب لهذا الزواج أن يستمرّ، لأسبابٍ تخصّهما. ولكن ما ظلّ مثيرا للإعجاب قدرة الزوجين على الحفاظ على علاقة صداقة حضارية إنسانية شملت أفراد العائلة الكبيرة، وساهمت في استقرار الأبناء. 
تنقّلت ناتاشا في مسيرة حياتها بين عمّان وبيروت ودمشق وتونس ورام الله، وانهمكت في تفاصيل الإخراج الصحافي في بداية مشوارها الفني، ثم هربت من فظائع الحرب التي حفرت آثارها عميقا في روحها إلى الفن. اكتشفت فيه عالما موازيا فسيحا وملاذا جماليا مدهشا أفسحت فيه فضاء عالمها التشكيلي إلى عوالم النساء، ليس من منطلق جندري ضيق، بل من رؤية فلسفية إنسانية وجودية. رسمت في معرضها الأخير "المدثرات" النساء اللاجئات. وثقت بالريشة واللون جراحهن وأوجاعهن وصلابتهن وقدرتهن على تجاوز الألم وعلى صناعة الأمل وتخطي الصعوبات. 
نشأت ناتاشا في بيت يساري مثقف ومنهمك في الشأن العام، لأبٍ شيوعيٍّ رحل مبكّرا قبل أن تتجاوز السادسة من عمرها، لتقوم على تربيتها وإخوتها والدتها الروائية الراحلة زهرة عمر، التي أثرت المكتبة الأردنية بروايتين فارقتين، "الخروج من سوسرقة" و"سوسرقة خلف الضباب". طافت في مأساة الشتات الشركسي في نصوص روائية بديعة. ساهمت في تأسيس متحف محمود درويش مصممة ومشرفة، وهذا ما ظلت تعتبره من أهم إنجازاتها. 
وعن تأثرها بوالدتها الروائية والناشطة، تلك المرأة المكافحة الصابرة، قالت، في حديث تلفزيوني، "أمي كانت حنونة عطوفة  ومثقفة وملتزمة بتطوير مداركنا معرفية. في مرحلة المراهقة، حين كانت الفتيات يتباهين بما يرتدين من ألبسة، كنت وإخوتي نتباهى بعدد الكتب التي قرأناها". أثر ذلك بشكل جلي على شخصيتها المثقفة العميقة بدون ادّعاء. 
غياب ناتاشا المباغت خسارة كبرى على الصعيدين، الفني والإنساني، وقد أحدث صدمة في نفوس محبيها الكثر، ممن لم يعرفوا أنها كانت في صراع مرير مع الألم الذي قال كلمته الأخيرة غير الرحيمة لترحل عن عالمنا سيدة استثنائية شجاعة نزيهة صاحبة مبدأ، مناضلة حقيقية لا تُحسن التنظير، ولا تسعى إلى الظهور. آمنت بعدالة قضية وطنها، وكرّست حياتها في سبيل ذلك. خسرنا برحيلها فنانة مرهفة عميقة، لطالما عبّرت لوحاتها عن موهبة وحساسية وانحياز للأنوثة ولقيم الحق والجمال والعدالة.
كل العزاء لعائلة ناتاشا الصغيرة والكبيرة، ولرفاقها وأصدقائها وصديقاتها، ولكل من عرفها عن قرب، وأحبّ مزاياها الكثيرة غير القابلة للحصر في عجالةٍ كهذه.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.