في وداع خالد خليفة

02 أكتوبر 2023
+ الخط -

نبأ بطعم الفجيعة، الرحيل المفاجئ للروائي (والسيناريست) السوري المتقد خالد خليفة عن 60 عاماً إلا شهوراً. لم يصدّق كثيرون بسهولة، وتصادت الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي بين مصعوق ومندهش، كتب مثلاً صاحب رواية "برّ دبي" السوري زياد عبد الله، الذي تجمعه بالراحل صداقة وطيدة، في صفحته بـ"فيسبوك": "حاولت ألا أصدق خبر وفاة خالد خليفة، وأمام هذا الفيض من العتب على رحيله المبكّر والخاطف، بدا الأمر حقيقة. نعم الأمر مدعاة لمعاتبته! لا بل ما باليد سوى معاتبته هو بالذات على رحيله المبكّر والخاطف. ومع انقضاء هذا العتب، بدأ التقوّي بالذكريات أفضل ما يمكن فعله، هو أجمل صُنّاعها ممزوجة بالبهجة دائماً". 
تطلّ صورة خالد خليفة أمام العينين، بنقرة زرّ في الشاشات الرقمية، مبهجة باسمة، أو على وشك الضحك، بلحيته المبعثرة التي كأنما جاءت نتيجة انشغاله الحثيث بكتابة ما. قبل يوم من رحيله، كنت في حديث في مقهى على هامش معرض الرياض للكتاب، مع الكاتب السوري هيثم حسين، عن خالد خليفة، حين اقترحت عليه، مازحاً، أن يقتني موس حلاقة لخالد، عساه يجد لها وقتاً خارج طاولة الكتابة. 
ربما عرف خالد خليفة بتتابع رواياته التي جاءت مشروعاً سورياً خاصّاً يربط الماضي بالحاضر، وجعل منه أكثر المرشّحين تداولاً لجوائز الروايات العربية، وفتح له الباب للترجمات إلى لغات عدّة. وقد رجّح فوز روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" بجائزة نجيب محفوظ للآداب لعام 2013، والتي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، أهمية أعماله، وساهم في مزيد من ذيوعها. وهي جائزة لا تسبقها قوائم، وللفوز بها، ربما لموضوعيتها وحملها اسم عميد الرواية العربية، أهمية وازنة، وتوفّر الباب للفائزين بها حصّة من الشهرة، كما حدث مع رواية السوداني حمور زيادة "شوق الدراويش" فقد كان فوزه بهذه الجائزة جواز سفر حقيقياً له إلى مزيد من القراء الذين تابعوا رواياته اللاحقة. حصل هذا مع خالد خليفة، بعد "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" التي قدّمته كاتباً مكتملاً، عرف كيف يجول بهدوء وتوسّع في العوالم السورية تاريخاً وحاضراً. 
تمتاز روايات خالد بتلك الصفة التي أطلق عليها أمبرتو إيكو "سرّ الكتابة الحقيقي"، وهو ما يعني إتقان الوصف، وقد مارسه إيكو في معظم رواياته التي تتصف بالطول والبدانة المحبّبة (بسب تاريخية مواضيعها؟) مثل روايتيه "اسم الوردة" و"مقبرة براغ"، حيث يقدّم كل فصل فيهما جديداً ومختلفاً كلياً عن سابقه، وكأننا أمام رواياتٍ عدة في كتاب واحد. وقد استفاد إيكو في هذه التقنية من كتاب "ألف ليلة وليلة"، حيث كل ليلة ليست كالتي قبلها، ولا التي بعدها قطعاً، وإنْ كان منطلق الحكي واحداً. حاول خالد خليفة، في رواياته أيضاً، أن يبث جديداً ومختلفاً في كل فصل من فصولها. إنه كاتب فصول متقن. حتى في رواياته القصيرة نسبياً مثل "الموت عمل شاقّ" التي تسرد طريق جثة محمولة في سيارة إلى الدفن. رواية في هجاء المأساة السورية بكيفية مبتكرة ماكرة، تجعلك لا تخرج من أجواء هذه الحرب بمجرّد خبر عابر، إنما تعيش معها أولاً بأول، وفي لهاث، وكأنك تعوّض اللهاث المفقود للميت، عن طريق مصير جثّة يبحث لها أصحابها عن مكان تكرّم فيه تحت الأرض، ولا يجدونه بسبب الواقع الأمني المرير.
تميّز الراحل كذلك بما سمّاه النقد "أفق انتظار" فرواياته ذات الطبيعة السورية الصرفة لا يمكن أن تصدُر من دون أن تجد إقبالاً كبيراً من القرّاء فتعاد طبعاتها، وتترجم إلى لغات عدة، كما "مديح الكراهية" التي تأخذ طابعاً تاريخياً بعيداً عن السياسي المباشر. كما أن رواياته تتميز، في داخلها الموضوعي، بذخيرة البطء، لأنّها تستند إلى مرجعيات محلية سورية محقونة بخيال كاتب يجيد صناعته... يقدّم لك خالد خليفة روايته كمن يقدّم وثيقة نادرة لقرّائه، وهو بارعٌ في إسقاط الأزمنة ومزجها، فالتاريخ عنده حاضر والحاضر أزلي. رحمه الله. 

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي