في مقاومة نسيان "تل الزعتر"
الذاكرة الفلسطينية بشأن ويلات العُسف والتقتيل والطرد والفتك والانتهاك مُرهَقَة، مُتعبَة بما تمتلئ به مما لا يجوز نسيانُه أو تناسيه، ومنه المذابحُ التي بلا عدد، والتي تروّعك القراءة عن الفظائع المهولة فيها. وتلك المذبحة في مخيّم تل الزعتر في لبنان، وقد مرّت ذكراها السابعة والأربعون في 12 أغسطس/ آب الحالي، مثال. ربما هي وطأة الراهن الثقيلة، ومعها الشعور بأن الفلسطينيّ منذورٌ لنوائب من غير صنفٍ ولونٍ، من بعض أسباب عبور الذكرى خافتة. ولكن الذي يحسُنُ، في مقامٍ كهذا، أن نُغادِر الشحنة العاطفية العابرة، والحكي الذائع، وغير المُدقّق غالبا، في شأن تلك الجريمة الفادحة، إلى محاولة معرفة الحقائق بشأنها، والتملّي في تفاصيلها ومقدّماتها. وهنا، يُسعفك، في كثيرٍ من هذا، الجهدُ الذي يتوفّر على مقادير ظاهرةٍ من الجدّة والجدّية العاليتين، في كتاب الباحث والإعلامي الفلسطيني محمّد داود العلي "مخيم تل الزعتر ... وقائع المجزرة غير المنسية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، 2022). والذي يجتمع فيه التأريخُ والبحثُ والتقصّي والتحليلُ والتركيبُ والتفكيكُ والنّبشُ والتحرّزُ والتسجيلُ والكشفُ والترجيح. ولمّا قال المؤلف في محاورةٍ معه إنه ليس مؤرّخا و"لكنّ إنصاف الضحايا يقتضي قول الحقيقة كاملة"، أظنّه كان يحترس كثيرا، غير أن ما صنَعه في كتابه لا يحيد عن صميم عمل المؤرّخ. أما "الحقيقة الكاملة"، فكان حسنا في الكتاب نفسِه أنه، مع إحاطته الواسعة بمختلف جوانب "وقائع المجزرة المنسيّة"، لم يدّع أنه وصلَ إلى هذه الحقيقة المتوخّى أن تكون كاملة، ولكن تواضعا مثل هذا لا يجوزُ أن ينفي عن هذا الكتاب أنه الأوْفى في الإحاطة بكل الجوانب والإحالات الموصولة بالمذبحة، السياسية والتاريخية والاجتماعية، المركّبة والمعقّدة غالبا، بشأن حصار قوى لبنانية يمينيةٍ، ذات نزوع رافض للوجود الفلسطيني في لبنان، مخيّم تل الزعتر 52 يوما، ثم ارتكاب جرائم القتل (جرى تقطيع جثثٍ ورميها) والتي شارك فيها رجالٌ ونساء (!)، وإسقاط المخيّم وتهجير من فيه.
لم تحظ تلك المجزرة، التي عمل محمّد العلي سنواتٍ من أجل ألا تبقى منسيّة، بتحقيق مسؤولٍ ومفصّل، من جهةٍ لبنانيةٍ أو فلسطينيةٍ أو سوريةٍ أو عربيةٍ أو أممية. وهذا ليس مفاجئا، فوقائع سابقاتٌ على "تلّ الزعتر" وأخرى تالياتٌ لها لم تُحرِز أيٌّ منها تحقيقا كالذي يوصَف هنا مسؤولا ومفصّلا. وعندما نعرف أن ميشال عون هو الضابط في الجيش اللبناني الذي وضع خطّة مهاجمة المخيم عسكريا، وأن وزير الداخلية في حينِه، كميل شمعون، هو من أصدر الأمر بذلك، وأن قوات الجيش السوري أعاقت حركة المقاومة الفلسطينية ودفاعَها عن ناس المخيّم المحاصرين، ويسّرت للمعتدين جريمتهم، عندما نعرف هذا وغيرَه، فإن التحقيق الذي لم يُنجَز كان سيحدّد كل المسؤوليات عن ذبح مدنيين أبرياء عزّل وخطف آخرين مثلهم، ما زال كثيرون منهم مفقودين بلا أثر لأيٍّ منهم، وكان سيوفّر صورةً أعرَضَ ربما عن أوضاعٍ ميدانيةٍ وعسكريةٍ عويصةٍ في المخيّم الذي يقع على مبعدة كيلومترات من مركز بيروت، والمُحاط بتجمّع لبناني مسيحي، ما جعله موضعا شديد الحساسية في لحظة احتدامٍ سياسيٍّ وطائفيٍّ وعسكريٍّ حادّ في لبنان، عبّرت عن نفسها في اشتعال الحرب الأهلية المعلومة قبل نحو عامين من سقوط المخيّم والمذبحة فيه بعد حصارٍ واستهداف له، واشتباكاتٍ فيه وفي محيطه.
الحسّ العالي بالمسؤولية العلمية ملحوظٌ في جهد محمّد داود العلي، وهو يورد معلوماتٍ غزيرةً من مصادرها ومظّانها، من مراجع ومصادر متنوّعة، ومن أفلام ووثائقيات ووثائق ومحاضر وخطب، من صحف ووسائط إعلام وبيانات، وقبل هذا كله وبعده، من شهود عيان وعارفين تواصَل معهم ودوّن شهاداتهم ومرويّاتهم، ممن كانوا في مطابخ القرار الفلسطيني، الميداني والسياسي، في حينه، ومن ناجين وناجياتٍ كانوا في المخيّم في أتون المذبحة ومقدّماتها. وذلك بعد أن بسطَ أرضياتٍ تاريخيةً وسياسيةً كانت الجريمةُ من نواتِجها ومحصّلاتها. ولئن غاب شهودٌ سوريون فذلك بسبب الصمت السوري المديد على غير مستوى، وليس بسبب "قلّة حيلة" المؤلّف الذي تقصّى الاتصالات والاجتماعات مع الرئيس حافظ الأسد، وجاء على مختلف المفاصل السورية التي ساعدت كثيرا في تأثيث سرديةٍ، تبقى فلسطينيةً في المبتدأ والمنتهى، على قدرٍ كبيرٍ من التماسك والموثوقية.
لم يكن مُراد هذه المقالة إيجاز معطياتٍ وأحداثٍ موصولةٍ ببعضها، بمقدّماتها وحواشيها ونتائجها، في الكتاب، ولا التحقّق من هذه المعلومة وتلك، وإنما التنويه بالكتابِ نفسِه، وبالجهد فيه، المقدّر لا ريب، والذي لا يدّعي الكمال المُطلق، لكنه يسّر إضاءةً شديدة الأهمية على وقائع مجزرةٍ لا يجوز، أخلاقيا ووطنيا وإنسانيا، أن تظلّ منسية.