11 نوفمبر 2024
في مرض النظام الفلسطيني
ليست القضية في أنّ الرئيس محمود عباس (82 عاماً) اعتلّ قليلاً أو كثيراً، وأنه أجرى في المستشفى عمليةً ضروريةً في إحدى أذنيه، وأنه أصيب بالتهابٍ رئوي، ثم عولج وتحسّنت صحته، بعد إصرارٍ على الصيام في أول أيام رمضان، وامتناعٍ عن السفر إلى قمة إسطنبول استجابةً لمطلب الأطباء الذين رافقه أحدهم في رحلته أخيراً في تشيلي وكوبا وفنزويلا. ليست القضية هنا، ولا في أن مغرضين تقوّلوا على الرئيس بما ليس في صحته، نعتهم متحدثٌ مفوّهٌ باسم حركة فتح بأنهم من طابورٍ خامس، وذوو أحقاد دفينةٍ هابطةٍ رخيصة. وليست كذلك في أن أوساطاً إسرائيلية انشغلت بالمسـألة، وأشاعت أن حالة أبو مازن خطيرة، فراحت الصحافاتُ العبرية تخوض، براحتها وكيفما اتفق، في من سيرث الرئاسات الفلسطينية الثلاث، السلطة الوطنية وحركة التحرير (فتح) ومنظمة التحرير، هل هو فلانٌ أم علانٌ أم غيرُهما. وليست القضية في أن "وعكةً صحيةً عادية"، يمرّ بها عباس، ربما تعود إلى إسرافه في التدخين، وسفره الكثير، ومتاعب عمله ومسؤولياته الثقيلة، وقرفه من مباذل إدارة ترامب وسفيرها لدى نتنياهو. كما أنها ليست في أن هذه أسباب المزاج المتوتّر الذي صار عليه الرئيس، وغضبِه السريع، وتزيّده في قراراتٍ لا حكمة فيها، من قبيل معاقبة موظفين في قطاع غزة. وليست القضية في أن عباس ثمانينيٌّ تقدّم في العمر، فمهاتير محمد عاد رئيساً للحكومة في ماليزيا تسعينياً، والباجي السبسي أتم في قصر قرطاج عامه التسعين.
القضية هي مرض النظام السياسي الفلسطيني، وعدم تعافيه، وعطبُه الثقيل، وانعدام الاكتراث بوجوب علاجه. هنا الموضوع، وليس مرض الرئيس محمود عباس وتعافيه في مستشفى، شافاه الله وأطال عمره، فهذا خبرٌ ستزيحُه من نشرات الأخبار الراهنة أخبارٌ مستجدّة أخرى. الاعتلال في مطرحٍ آخر، في أن لا عاقل يشتري الكلام عن صناديق اقتراعٍ ستعيّن الرئيس الفلسطيني المقبل. وفي أن الأعمار التي بيد الله هي التي ستأخذ الفلسطينيين في أراضي الحكم الذاتي المحدود إلى الفلكلور الانتخابي من اللون التقليدي المعلوم، والذي صيّر الشهيد ياسر عرفات، بعد رئاسته، عقودا، كل شيء فلسطينيٍّ، رئيساً باقتراع الناس مباشرةً، بعد فوزه على سيدةٍ اسمُها سميحة خليل. وهو الفلكلور الذي استعصى ابتداع نوباتٍ منه، لتجديد إقامة محمود عباس في الرئاسة التي انقادت له قبل ثلاثة عشر عاماً. ودلَّ على الاعتلال المتحدّث عنه هنا، أخيراً، ما جرى في واقعة اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله أخيرا، فقد حوفظ فيها على رئاسة عباس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واختير أعضاء هذه اللجنة بكفاءةٍ، كشفت أن مرض المؤسسات الرسمية الفلسطينية أشدُّ مما نظن، وإنْ أُخرج ياسر عبد ربه من عضوية هذه اللجنة التي كان يقيم فيها منذ رئاسة ريتشارد نيكسون في الولايات المتحدة.
طريفٌ وسمجٌ في الآن نفسه أن يساوي بعضُهم الكلام الإسرائيلي أخيراً عمن سيرث رئاسات المنظمة و"فتح" والسلطة مع كلام أيٍّ منا في هذا الشأن، بدعوى أن الرئيس عباس بخير، ويعالَج في مستشفىً فلسطيني، بإشراف أطباء فلسطينيين، على ما أفادنا جهابذةٌ أكثر إخلاصاً ووطنيةً منا، نحن أهل القيل والقال في المحرّم الذي لا يجوز أيُّ حديثٍ عنه، طالما أن صناديق الاقتراع تحلّ الموضوع، بعد عمرٍ طويلٍ للرئيس. وهنا، يجب أن يعرف أصحاب هذه الخراريف أن بؤس الحالة الفلسطينية عموماً، ومكوثها الراهن والمديد في القاع، يوجب إشهار الصوت عالياً بأن مرض النظام السياسي الفلسطيني، بضعف تمثيليّته ورتابة مؤسساته وشيخوختها وتكلس بِنياته، يحتاج شجاعةً في التشخيص، وشجاعةً أكثر في العلاج، وشجاعةً أكثر وأكثر في دفن الخلايا الميتة فيه. وربما من أولى خطوات هذا كله أن يُصارَحَ الرئيس محمود عباس بأن عليه أن يجرّب انعطافةً إلى فترةٍ انتقاليةٍ إلى صيغة متجدّدة، بلا إنشائيات وعنتريات، لتسليم سلطات الرئاسات المعلومة، بكيفيةٍ يتبدّى فيها تمرينٌ أول على تداولٍ للسلطة، حقيقيٍّ ما أمكن. وفي الأثناء، يخلُصُ الفلسطينيون من خزي الانقسام السياسي والجغرافي الراهن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بين حركتي فتح وحماس، ففي الأمرين حزمةٌ من أمراضٍ شنيعةٍ كثيرة، وعدُّها متعبٌ للنفس ومضجرٌ.. ومقلق.