في مديح العائلة

07 يناير 2023

(جميل ملاعب)

+ الخط -

لم يشبه صباح رأس السنة الجديدة قبل أيام أي صباح آخر مرّ علي في مناسبة كهذه منذ أكثر من عقد. عادة كنت أقضي سهرة رأس السنة مع الأصدقاء، ثم أعود إلى بيتي في ساعة متأخّرة من الصباح، بعد سهرة طويلة تخللتها دموع كثيرة تتدفّق على وجهي عندما أبدأ بمهاتفة أفراد عائلتي الصغيرة، كي أهنئهم بالعام الجديد، أمّي في سورية وأختي في فرنسا وابنتي الوحيدة في ألمانيا. ثم أستيقظ أول الظهيرة على صمت البيت وفراغه الذي لا يخفّف منه سوى حضور قطّتي الصغيرة سيوا، وأصوات السيارات والمارّة في الشارع الضاج والمزدحم عادة أسفل بيتي، والهادئ نسبيا في اليوم الأول من السنة. سهرة رأس السنة هذا العام مرّت بلا دموع ولا أسى ولا اتصالات عند انتصاف الليل لمعايدة أفراد عائلتي. وصباح السنة الجديدة لم يكن صامتا ولا هادئا كما اعتدت عليه، ذلك أني استيقظت قرب الظهيرة على رائحة القهوة العربية تملأ بيتي الصغير، وصوت أمي وهي توقظنا، أختي وابنتي وأنا، كان كافيا لمحو أي أثر مما تخلّفه الكآبة التي عادة ما تكون تالية لسهرة احتفالية برأس السنة.

لأول مرة منذ أتيت للعيش في مصر قبل عشر سنوات ونصف السنة، تجتمع عائلتي هنا، عندي، في بيتي الصغير في باب اللوق في القاهرة. اجتمعنا سابقا في فرنسا وفي ألمانيا وفي تركيا، لكنها المرّة الأولى التي نجتمع فيها في مصر، التي نحبّها جميعا كما لو أننا عشنا فيها عمرا كاملا، كما لو أن ذاكرتنا قد تأسّست بها، كما لو أن حياة كاملة عاشتها كل منا هنا، يا للمفارقة حقا. قدمت أمي من سورية قبل أقلّ من شهر، ولحقت بها شقيقتي القادمة من فرنسا بعد يومين. أما ابنتي فقد أتت لتقضي ما يقارب الشهر وتعود إلى برلين وها هي عالقة هنا، في حبّ مصر، منذ ثمانية أشهر، تحاول كل يوم دفع ضرورة عودتها إلى الأمام علّ شيئا ما يحدُث ويجنّبها كآبة العودة.

بيتي في باب اللوق في وسط القاهرة غرفة نوم واحدة وغرفة جلوس ومدخل صغير، حجمُه مناسب جدا لامرأة تعيش وحدها، حيث كل شيءٍ في مكانه المعتاد، وحيث لا مجال ولا مساحة تتسع للفوضى. علّمني حجم البيت كيف أحتالُ على المساحات الصغيرة، وأبقيها في منأىً عن احتلال الكراكيب لها. أو لنقل إنني تعلمت هذا من التقدّم في السن، ومن تغير علاقتي مع الحياة وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، بعد ما حدث في سورية، وبعد ما حدث لي شخصيا من أمراضٍ استهدفت البؤر المستقرّة في لاوعيي بقدر ما استهدفت أعضائي الفيزيولوجية.

منذ قدومهم جميعا، وثمّة عاصفة من الفوضى تجتاح البيت، الحقائب والحواسيب والجوالات وملحقاتها، الملابس التي لا تتسع لها خزانتي الصغيرة موضوعة في كل مكان، الكنبة التي تتحوّل إلى سرير مفتوحة دائما ومحتلّة مساحة واسعة من غرفة النوم التي لم تعد تتسع لشيء. أما قطّتي الصغيرة فهي اختارت أن تنأى بنفسها عن هذه الغرابة الحاصلة في البيت الذي لطالما اعتقدَت أنه بيتها، مفضلةً أسفل السرير تخرج لتقضي حاجاتها البيولوجية وتعود إليه. أما أنا فأراقب هذه الفوضى، وتبدو علي علامات التذمّر وأتمتم بكلماتٍ تدفع شقيقتي إلى القول، بلهجتها الدمشقية المخفّفة: "قاعدين علي قلبك، موعاجبك روحي استأجري غرفة بشي أوتيل لبين ما نقرر ايمتى بدنا نسافر". بينما يبدو الحزن على وجه أمي بالغ الطيبة، وهي تقول: "اللي بيطلع من دارو بيقل مقدارو". وتطلق ابنتي ضحكة سخرية عالية من هذا المشهد المتكرّر كل يوم.

أحبّ نفسي في هذه الفوضى، أحبّ هذه الخناقات الصغيرة مع أمي وأختي وابنتي. أحبّ شعور العائلة والدفء الذي تمنحه هذه "اللمّة" النادرة للسوريين والأحاديث المتكرّرة التي نعيدها كل يوم حول سورية وحول حياتنا وحول يومياتنا: "برد غلا شو بدكن تاكلوا اليوم شعلوا الضو شيلوا غراضكن وين بدنا نروح اليوم عندي شغل انسرق بيت جديد بالضيعة كل يوم عم ينسرق بيت الحرامية منهن وفيهن ..".

لم أعد معتادةً على العيش مع أحد في بيت واحد بعد عقد من الوحدة الكاملة، لكن من قال إن الوحدة عادة جميلة شخصٌ يرغب أن يؤنسن وحدته. الوحدة وحشٌ مرعب، سوف تكتشفون هذا عندما تتخيّلون صباح رأس السنة المقبلة، وأنتم تستيقظون على الصمت والفراغ، تتخيّلون رائحة القهوة التي تصنعها أمهاتكم تملأ البيت الصغير، وتمسح على كآبات ما بعد الاحتفال المراوغ بالسنة الجديدة فتزيلها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.