في محبّة زهير النوباني
كان اسمه الناطور صافي، في المسلسل الشائق، القوي في أداء الممثلين القديرين فيه، "حدَثَ في المعمورة"، (إخراج صلاح أبو هنود، قصة محمد العبّادي، سيناريو وحوار محمود شقير، أشعار محمد القيسي). كان الفنان النجم، زهير النوباني، في ذلك العمل حارس القرية، ناطورها، صافي السريرة والقلب، يتمسّك بالبقاء في القرية، ويرابط فيها، ويتحسّب، مع أهلها، من محتالٍ سارق كان يدبّر للبقاء فيها، يخاطبه الناطور صافي "اطلع يا نجلاوي اطلع، من هالقرية لازم تطلع، درب تودّي ما تجيب". أحببنا ذلك المسلسل الحميم، على بساطة مفرداته الإخراجية والفنية والتعبيرية، وما زال في الذاكرة، منذ إنتاجه وعرضه الأول على شاشة التلفزيون الأردني في 1981، ربما للترميزات فيه عن قضية فلسطين، وأيضا لاجتماع أبرز فنّاني الدراما الأردنية، الناهضة والقوية في حينه، محمود أبو غريب وأديب الحافظ ومحمد العبّادي ومارغو أصلان وعادل عفانة وعبير عيسى وحابس العبادي و... ولكن الناطور صافي، أو زهير النوباني باسمه الرسمي، يعلن، قبل أيام، نيّته الهجرة من بلده الأردن، في "فشّة خلق" ظاهرة، فأثار، في صيحته هذه، زوبعة من مشاعر السخط على أوضاعٍ عامّةٍ في البلاد، معيشية واقتصادية واجتماعية، تجعل فنانا ثقيل القيمة، محبوبا من مختلف أجيال الأردنيين، وهو في الـ71 عاما من عمره، متّعه الله بالصحة، "يبقّ بحصةً" كهذه. ثم أوضح بنفسه، واسترسل في الأمر، وقال إنه لم يعُد قادرا على الصمت، فيما أصبح لا يُطاق تهميش الفنانين الأردنيين، وعدم الاكتراث بهم، وهم الذين صاروا غير قادرين على إعالة عائلاتهم بكرامة، وعلى إيجاد تأمينٍ صحّي محترم. وقال أيضا إنه ليس هناك أي اهتمام من الحكومة، ولا من القطاع الخاص، بأوضاعهم، ونقابتهم عاجزةٌ عن إنقاذهم.
قائل هذه الكلمات، وغيرها من تصريحاتٍ ناقمة، حائزٌ على وسام ملكي رفيع، لعطائه في الفن الأردني، وصاحب نحو 120 مشاركةٍ في مسلسلات ومسرحيات وأعمال مشهدية منذ نحو 50 عاما، لكثير منها مواقع متقدّمة في ذاكرة الجمهور العربي العريض. ناصره زملاء له في الذي جهر به، بل منهم من أشهروا نياتهم الهجرة، أو تفكيرهم بها (مكّادي النحاس مثلا). ولقائل أن يقول إنها الحالة العامة التي يغالبها المواطن الأردني، مع ضيق سوق العمل، وتفاقم الغلاء، وقلّة المداخيل، تمسّ قطاع الفنون في البلد، وتصيب أعراضُها المشتغلين فيه، كما غيرُهم في أعمال أخرى. بل ربما أمكن لقائل آخر أن يزيد إن حال الفنانين في لبنان وسورية والعراق، وربما بعض دول الخليج، وكذا في المغارب العربية، ليس أحسن حالا مما هي عليه أوضاع زملائهم الأردنيين. وفي البال أن الراحل حاتم علي، وهو من هو مخرجا كبيرا بحقّ، كان مهاجرا في كندا، وتقيم أسرته هناك، كما زملاء سوريون له. والقول هنا إن كل هذا الكلام، المحقّ، يصلح لتطييب الخواطر، ولتعويم المقطع الأردني المتحدّث عنه، ولكنه لا يمنع من أن يجهر واحدُنا بزفرةٍ من الحنق الغاضب على حالٍ تُسرع خُطاه القهقرى، في غير شأن وشأن، فأمرٌ ثقيلٌ في وطأته أن يشكو زهير النوباني، وليس غيرُه، وأن يرفع صوتَه، مستغيثا من أجل زملائه، ويحكي في أمر هجرته من البلد، في لحظة زعلٍ معلنةٍ أمام كل الناس.
لتكن هذه الاستغاثة (بمن بالضبط) هذه، إذن، مناسبةً متجدّدةً لإعلانٍ متجدّد عن محبّة زهير النوباني، الذي أظنه، ما زال صاحب اسمٍ "بيّاع" في سوق الدراما التلفزيونية الذي صار مريضا، وقد محضَه جمهورُه الكثير إعجابا مستحقّا بكثير من أدواره في مسلسلاتٍ بدويةٍ وتاريخيةٍ وريفيةٍ وعصريةٍ وخليجيةٍ وفيرة، لا يُنسى بائع هريسة في "العلم نور"، ولا "الظاهر بيبرس"، ولا في "شجرة الدرّ" وغيرها. ولا تُنسى صيحاته في دور أبو العزّ في قرية أم الزيتون في مسرحية "البلاد طلبت أهلها"، (إنتاج 1989)، عن بلادٍ طلبت أهلها. ومن "مغامراته" المالية، الانتحارية ربما، عرضُه هذه المسرحية التي كانت من إنتاجه (إخراج المنصف السويسي ونص عبد اللطيف عقل)، على حسابه في القاهرة، ليكون، ربما، أول فنان عربي يعرض، تجاريا، عملا مسرحيا في مصر. وفي البال كذلك "مغامرته" في تأسيس مسرحٍ يوميٍّ في عمّان، في تجربةٍ لم تنجح مادّيا.
لن يُهاجر صاحبنا من عمّان. سيبقى أحد حرّاس الجمال فيها، والصوتَ الشجاع في الانتصار للفنان الأردني ... وسنبقى ننتظر الجديد من فنانٍ كبير المنزلة والمكانة في جمهورية مشاهديه الذين أحبّوا الناطور صافي وأبو العز .. وكل زهير النوباني.