في مجتمع الضباع
كثيرا ما جرى تشبيه البشر الأنذال بالضباع آكلة الجيف، لكن دراسة علمية حديثة أخذت تلك التشبيهات من المجاز إلى حيز الواقع. كشفت الدراسة التي نشرتها مجلة نيتشر، العلمية، عن نمط واضح من التقسيمات الاجتماعية داخل عشيرة الضباع، حيث تنقسم إلى طبقاتٍ أعلاها رئيسة العشيرة في ذلك المجتمع الخاضع للهيمنة الأنثوية، ثم معاونيها، ثم الضباع "العوام"، ولكل رتبةٍ امتيازات محدّدة، حتى إنها تصل إلى تحديد مكان جلوسها.
استخدمت الدراسة بياناتٍ من أكثر من 73 ألف تفاعل اجتماعي على مدار 27 عاما، وخلصت إلى أن الحظوظ الأفضل لأطفال الضباع ذات الحظوة لا تقتصر على توفر الغذاء، بل أيضا تمتد إلى توريث "الشبكات الاجتماعية"، حيث تتولى الأم من الضباع الأعلى رتبة تعريف ابنتها على أفراد "الحاشية"، وهم بدورهم يبقون على ولائهم، ويورّثون أنجالهم شبكاتهم ومميزاتهم، بينما لا تستطيع الضباع الأدنى رتبة اتباع النمط الثابت نفسه، ويتعلم أطفالهم خبراتٍ أقل لعدد السنوات نفسه في مقتبل العمر.
قال الأستاذ في كلية بنسلفانيا للفنون والعلوم، والمؤلف المشارك في الدراسة، إيرول أكشاي، لصحيفة الرؤية التي عرضت الدراسة بالعربية، إن عمل فريقه يسهم في فهمنا كيفية عمل المجموعات الاجتماعية المعقدة في الحيوانات، وكذلك البشر.
وحين اطلعت على نتائج تلك الدراسة، تذكرت نتائج عديدة شبيهة في دراسات بشرية، حيث ثبت أن دور المستوى المادي للأسرة حاسمٌ في مستقبل الأطفال أكثر من مواهبهم أو ذكائهم أو اجتهادهم طوال حياتهم.
وقد كشفت أعمال الاقتصادي الفرنسي، صامويل بيكيتي، على سبيل المثال، عن أنماط تركز الثروة وتوريثها الحصري عبر قرون في فرنسا وإيطاليا، وعدم كسر تلك الدائرة أبدا إلا بأعمالٍ مدمرة من خارجها كالثورة الفرنسية. بل إن ورقة بحثية نشرتها "نيتشر لعلم الأعصاب" توصلت إلى معلومة صادمة، أن معدل نمو القشرة الدماغية للأطفال يرتبط ارتباطا وثيقا بعائلاتهم، ليس فقط حسب المستوى المادي، والذي يعني وصولا أفضل إلى الطعام الصحّي والمغذّي، بل أيضا حسب المستوى التعليمي للوالدين.
قالت الدراسة إن مساحة القشرة الدماغية عند الأطفال ذوي الوالدين الحاصلين على مستوى من التعليم المنخفض أصغر حجماً بنسبة 3% عن أطفال الوالدين ذوي التعليم العالي، أما الأثر المادي فكان صارخا بشكل أكبر، حيث ثبت أن مساحة القشرة الدماغية عند الأطفال المنتمين إلى عائلات أميركية، دخلها المادي 25 ألف دولار سنوياً، أصغر بنسبة 6% من أطفال الأسر التي يتجاوز دخلها 150 ألف دولار.
عبر آلاف السنين، طور البشر أنماطا أكثر تراحمية، وظهرت محاولاتٌ شتى للارتقاء لبعض العدالة. مرّت بالبشرية أديان وفلسفات وأفكار كبرى، منذ الجمهورية الرومانية وحتى الشيوعية والديمقراطية، بحثا عن إجابة لأسئلة تداول السلطة وتوزيع الثروة. وما زال الطريق طويلا حتى نبتعد عن الضباع.