15 نوفمبر 2024
في عيد "الجزيرة" العشرين
لا تؤشّر قياسات الرأي العام العربي الموثوقة إلى تراجع مشاهدة الجمهور العربي قناة الجزيرة، وإنْ باتت قنواتٌ أخرى تتقدّم، وصارت تحظى بانتباهٍ لافت. ولكن، هناك ما يمكن اعتباره شعوراً عريضاً، ولا سيما لدى نخبٍ مثقفةٍ واسعة، بأن القناة الشهيرة لم تعد في مكانتها الشعبية المعلومة، وأنها خسرت اعتباريّتها الخاصة، بسبب إفراطها في "شعبويتها"، وفي تظهيرها الزائد عن الحد لانحيازاتها، "الإسلامية" منها، والمجامِلة نظام صدام حسين في مرحلةٍ سابقة، و"المتخندقة" بحدةٍ في مناوأة نظام عبد الفتاح السيسي راهناً. .. هذا كلام مثقفين، وله وجاهته، ويحمل مقادير غير خافيةٍ من الصحة، لكنه أبداً لا يعني أن مشاهدة مئات الملايين العرب "الجزيرة" نقص كثيراً. هذا ليس صحيحاً، بدليل أن أصحاب وجهة النظر النقدية تجاه القناة و"خياراتها" السياسية يحرصون، أيضاً، على مشاهدة بعض برامجها، وساعاتٍ من نشراتها الإخبارية. أما إذا قيل إن المواطن العربي مصابٌ حاليا بأرطالٍ من الضجر من السياسة وأخبارها، من بشار الأسد ومعارضيه، ومن عبد الفتاح السيسي والإخوان المسلمين، ومن كل شيء، فذلك لا يعني، إنْ صحّ، أن هذه القناة الإخبارية أو تلك صارت تتفوّق، على مستوى المشاهدة، على "الجزيرة".
يحتاج "الحسم" الدقيق في فحص صحّة هذه "الفرضيات"، إن كانت حقائقَ أم انطباعاتٍ أم وجهات نظر، إلى دراساتٍ علميةٍ ومسحيةٍ وتحليليةٍ، يُنجزها باحثون ذوو مهنية وكفاءة، وهي غير متوفرة، على الرغم من أن استطلاعاتٍ ميدانية تتيسر في هذا الخصوص، في مقدمتها "المؤشر العربي" الذي ينجزه سنوياً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو، برأي صاحب هذه الكلمات، المجهود الأوفى في معرفة مزاج الشارع العربي في غير قضيةٍ ومسألة، ومنها "جماهيرية" وسائل الإعلام والفضائيات العديدة، غير أن بحوثاً لا تنشط، وتعمل على الإفادة من هذا الاستطلاع الدوري والمنتظم (وغيره)، لإيضاح الصورة كاملةً ومدققةً في شأن الفضائيات العربية البارزة، وكذا المحلية، غير أننا أحوج ما نكون إلى هذا الجهد العلمي بشأن "الجزيرة"، ليس فقط لمركزيتها الخاصة بين شاشات التلفزات العربية، وإنما لتبيّن المزاج العام بشأنها، ما إذا كان قد تبدّل أو تغير بشأنها، نقصاناً في الإقبال عليها، أم زيادةً فيه، أو ثباتاً. والزعم، هنا، أن عملاً علمياً مثل هذا، متحرّرا طبعا من أي انحيازاتٍ أو مجاملاتٍ أو ولاءاتٍ من أي نوع، يساعد في التعرّف على مسائل أخرى تتصل، حكماً، بقضايا سياسية واجتماعية، فليس الحديث هنا عن محطة تلفزيون عاديةٍ، بل عن فضائيةٍ تلفزيونية لها نفوذها (نعم نفوذها) على مزاج الشارع العربي، في غير موضوع وشأن. وأياً يكن الموقف منها، فإن هذه الحقيقة لا يحتاج نقاشاً.
لنتخيّل أن "الجزيرة" تأخذ موقفاً مناصراً للنظام السوري (تأخرت أسابيع بعد اندلاع الثورة ضده في تظهير موقفها الراهن)، ومع كل الاحترام والتقدير لفضائياتٍ لم تقصّر في أثناء محنة الشعب السوري الراهنة، هل كنا سنتعرّف جيدا على الجرائم الحادثة في حلب وشقيقاتها؟ لا ينكر كاتب هذه السطور أن سؤاله هذا يستسخف من يشايعون النظام المذكور ويوالونه، ويرونه ملائكياً يحارب إرهابيين، طالما أن "الجزيرة" التي تموّلها دولة قطر هي التي تعاديه. وهنا، يحسُن أن يُقال لهؤلاء إن "الجزيرة" كانت من أهم الفضائيات العربية التي تُجامل الأسد ونظامه وحلفاءه، ولعلها كانت من أبرز الأذرع التي روّجت أزعومة المقاومة والممانعة لديه.
ولأن موضوعات السياسة وقضاياها، في غير بلدٍ وساحةٍ، ليست كل شيء في التلفزات، فثمّة برامج متنوعة أخرى فيها، فإن "الجزيرة"، بمناسبة عيدها العشرين، مدعوةٌ إلى أن تساهم في تثقيف المواطن العربي، وتنويره في شؤون الثقافة والفنون والآداب، وكل مناشط الإبداع في الشعر والسينما والموسيقى والرواية مثلا. وإذ وفّرت جرعاتٍ من هذا كله، في سنواتها العشرين، إلا أن هذا الأمر لم تكن له أولويةٌ ظاهرةٌ لديها. يُؤمل أن تفطن القناة الشهيرة إليه، وإنْ للمثقفين مواقفهم النقدية (والانتقادية) منها، إذ يحقّ لكل منهم أن يرى ما يراه عنها، فليس مطلوباً من المثقف أن يتبنّى آراء الناس وأهواءهم لأنهم الكثرة. ولأنها "الجزيرة"، عليها أن تحتمل كل عتبٍ عليها أو غضبٍ منها، بل وأي "تفلسفٍ" بشأنها. .. وألف مبروك لكل العاملين فيها في عيدها العشرين.