في شأن الاعتداء على النساء
حكت لي صديقة يوماً، في معرض حديث عن التحرّش والاعتداء على النساء، أنها تعرّضت مرّة لتحرّش من صديق مشترك، مثقف تنويري يساري ومتحدّث عظيم، كان يجلس بجوارها في سهرة عشاء في بيتها، حين فوجئت به يضع يده على ساقها من تحت الطاولة. أخذت يده وأعادتها إلى مكانها أول مرّة، لكنه كرّر المحاولة عدة مرّات، حتى رفعت صديقتي صوتها، وقالت له أمام الجميع: "دعوتك إلى بيتي صديقاً يقدّر الصداقة، هذا لا يعني أنني أرغب في معاشرتك"، ثم طلبت منه مغادرة منزلها بسرعة. لم يقتل الصديق الرفيق صديقتنا طبعاً لرفضها له، لكنه لم يترُك مناسبةً لم يشتمها بها أو يصفها بأقذع الصفات أو يشهّر بها وبسمعتها العائلية والأدبية. لم يسفك دمها، لكنه فعل ما هو موازٍ لسفك الدم: كراهية شديدة تصل إلى الإعدام المعنوي. والحقيقة أنه نادراً ما نجت إحدى العاملات في الوسط الثقافي أو الفني السوري من التحرّش من "أصدقاء" مبدعين متنوّرين، وهو حال أوساط ثقافية وفنية في غالبية البلاد العربية، ما يدلّ على حالة فصامٍ يعيشها مثقفون عرب تائهون بين ما يريدون أن يكونوا عليه ونشأتهم في مجتمعات وبيئات بالغة الذكورية.
والحال أنه نادراً ما حدث أن تقبّل ذكرٌ ما رفض الأنثى له. سيعتبر هذا انتقاصاً من رجولته، وإن كان الرفض علنياً فهو بمثابة طعنة للذكورة المفترضة. والحدث هنا عن الذكور عامة في كل المجتمعات، وليس فقط في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فمنذ أن حل المجتمع الأبوي ذو المنظومة التوحيدية مكان المجتمع الأمومي المتعدّد، جرى فرض السلطة الذكورية التي تدعّمت مع الزمن بنصوص دينية بطريركية تحاول الانتقام من مرحلة العصر الأمومي، عبر إقصاء النساء إلى الأنساق المجتمعية الخلفية في كل شيء؛ من دون أن يتغير الأمر كثيراً في العصور الحديثة، حيث ما زالت النساء، رغم نشاط النضال النسوي في العالم، يعانين من التمييز والتعنيف الذكوري النفسي والجسدي والجنسي، والذي يصل إلى القتل أو الذبح. وهنا أيضاً ليس الحديث عن مرضى نفسيين وقتلة متسلسلين، بل عن رجالٍ عاديين قد يكونون في غاية اللطف أو رجالٍ مبدعين في مجالاتهم العملية والعلمية والفنية. نتحدّث ربما أيضاً عن أزواج وآباء تبدو حيواتهم للآخرين مستقرّة وهادئة، لكنهم يعانون نوعاً من الاضطراب المشابه لاضطراب الشخصية الحدّي، لكنه اضطراب مجتمعي سلطوي، يمنح أصحابه الحق في استباحة أجساد النساء المحيطات بهم واستباحة حيواتهن واعتبارهن موجوداتٍ في الحياة، ولكن تابعات ومتكيّفات مع رغبات الذكر المعيشية اليومية والجنسية.
وتعزّزت هذه السلطة مع الخوف النسوي من الرفض المستند إلى تربية مجتمعية تطالب الأنثى، منذ ولادتها، بالطاعة، إذ لطالما ترافقت صورة البنت المطيعة مع الصورة المثالية لما يجب أن تكون عليه الأنثى. يتربّى الذكر والأنثى على هذه التراتبية، الانزياح الذي سيحصل لاحقاً نتيجة النضال النسوي، ونتيجة انفتاح العالم بعد ثورة وسائل الاتصالات، وتعوّد الإناث على الرفض سوف يؤدي إلى شعور الذكر بالإهانة والانتقاص من مكانته وسلطته المعتادة، وبالتالي الانتقاص من شخصيته الذكورية الجنسية، فرفض الأنثى له هو رفض مكتسب له يعتقد أنه مُستحَقّ تاريخياً ومجتمعياً ودينياً؛ رفض للسلطة التي تبيح له مكسب العقاب أيضاً، فيعنّف ويضرب ويشتم ويسيء ويؤذي ويعتدي وينتهك ويقتل ذلك الجسد الآخر الذي يتمرّد على تاريخٍ من الرضوخ والخنوع والقبول والصمت.
ورغم أن العالم المتقدّم بات يعاقب المعتدي بقوانين صارمة، معتبراً التعنيف والاغتصاب والاعتداء الجنسي جرائم تستحق العقاب، عكس مجتمعاتنا التي ما زالت تحظى بسيطرة ذكورية على القوانين وعلى المنظومة المنفذة للقوانين، فإن جرائم الاعتداء على النساء، إنْ خفّت، إلا أنها مستمرّة، ولن تنتهي هذه الظاهرة قريباً. وفي مجتمعاتنا العربية هي مؤهلة للزيادة أو على الأقل ستزداد معرفة الناس بها بسبب وسائل التواصل، ذلك أننا في البلاد العربية والإسلامية نعيش حالياً في مرحلة الوسط بين الانتقال إلى الحداثة المجتمعية وما يلزمها من قوانين مناسبة وبين التمسّك بالرجعية المجتمعية ومحاولة الحفاظ على مرجعياتها القانونية والدينية، حيث ستدافع السلطة الذكورية عن وجودها بشراسةٍ قد تزيد من معدلات الجرائم المرتكبة بحق النساء والبنات، إلى أن يحدُث التغيير المرجو وتتغير معه القوانين المتعلقة بجرائم كهذه.