في زعل داود عبد السيد
تقول الصحافية، كريمة كمال، عن زوجها، المخرج السينمائي داود عبد السيد، إنه شديد الرّقي، ولهذا أحبّته وتزوّجته. وأقول إن الرّقي هو الوصف الأوضح لأفلام حكيم السينما المصرية وفيلسوفها، وهذان لقبان ذائعان لمخرجٍ أهدى أول فيلم أنجزه، العام 1976، وهو تسجيلي اجتماعي، إلى طه حسين، بعد أن غادر عمله الذي لم يكن مرتاحا إليه، مساعد مخرج (مع يوسف شاهين في "الأرض" مثلا)، حتى إذا شاهدنا "الصعاليك"، فيلمه الروائي الأول في 1985، صرنا أمام اسمٍ يعِدنا بالمفاجئ والجميل، ينضمّ إلى مجايلين له وسابقين عليه (محمد خان مثلا) من أهل السينما التي تحتفل بالذائقة، وتستفزّ التفكير في إيقاعاتها وجمالياتها ومرسلاتها. وعندما أبهجنا فيلم "الكيت كات" (1991) قدّرنا، نحن النظّارة المحترفون (التوصيف جائز)، أن اسم داود عبد السيد لا يخصّ مخرجا ذكيا فقط، وإنما أيضا يخصّ أسلوبا رفيعا، متينا، أو لنقل يخصّ مزاجا بالغ الأناقة، وشديد الرقيّ بداهةً. وبالمناسبة، هي أفلامٌ تسعةٌ أنجزها صاحب "أرض الخوف" (2000) في 25 عاما، كتب سيناريوهاتها وحواراتها بنفسه، باستثناء "أرض الأحلام" (1993). وذلك لأنه، حين يكتب السيناريو، فإنه يحدّد، نظريا، أشياء كثيرة، في أسلوب الإخراج، على ما أوضح مرّة. وفي الوسع، لمن أراد، أن يفحص هذا في السيناريو الذي شقلب (نعم شقلب) فيه داود عبد السيد رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين"، المتعبة غير السلسة (ليس هذا هجاء)، ليصنع تحفته "الكيت كات" (بأداءٍ باهر من محمود عبد العزيز ونجاح الموجي وعلي حسنين)، لمّا جعل دور البطولة في الفيلم لشخصيةٍ ثانويةٍ في الرواية.
جديد أخبار داود عبد السيد (75 عاما) أنه زعلان، مستاء، مزاجُه غير طيب. أنه قرّر الاعتزال، على ما أعلن في مقابلة تلفزيونية معه، أخيرا، أوضح فيها أيضا أن قراره هذا ليس مفاجئا، فهو بعيدٌ عن الشاشات منذ سنوات. وبعد صدىً واسع، بل وبعد دويّ صدمةٍ عبّر عنها كثيرون، قال صاحب "البحث عن سيد مرزوق" (1991)، في مقابلةٍ صحافية معه، إنه لو علم أن تصريحه سيثير كل هذه الضجّة لما أعلنه، فهو لا يهوى الوجود الإعلامي المكثّف. وأفاد بأنه لن يتراجع عن قراره، ولا يفعل هذا احتجاجا، وإنما الجمهور بات مختلفا، وليس هناك مشروعٌ سينمائي في مصر. ولكن، ليأذن لنا، نحن أصحاب التعاليق، أن نرى ما جهر به احتجاجا مهما، وأنها رواقيّته ورقيّ شخصه يغلّفان كلامه هذا بالكياسة المعهودة فيه. لقد طرَح على الشاشة التلفزيونية ما يجوز تسميته "عرض حال"، أو تعيينا لمأزقٍ راهنٍ يغالبه كل من يريد أن يصنع سينما أخرى، طموحة، غير مداهنةٍ للجمهور والسوق. لم يتعالَ الرجل على أحد، ولم يبدُ داعيةً إلى مذهبٍ يخصّه ويبشّر به، وإنما قال، بإيجازٍ ممكن، إنه ليس ممن يناسبهم جمهور السينما الموجود حاليا، ولا هو يناسب هذا الجمهور الذي يريد نوعيةً من السينما هو لا يجيدها. هو الذي بحث عشر سنواتٍ عن تمويلٍ لفيلمه "رسائل إلى البحر" (2010)، وأمضى خمس سنوات يطرُق أبواب المنتجين من أجل "الكيت كات"، فيما أموال التمويل تذهب إلى أفلام التسلية.
وعندما يقول إن لكل وقتٍ رجاله، كأنه يؤشّر، وإنْ مضمرا، إلى ازورار الجمهور عن فيلمه الأخير "قدرات غير عادية" في 2015، فيما لقيت سابقاته إقبالا واسعا، عدا عن جوائز رفيعة. وسينما هذا الفنان، سيما بعد "الصعاليك" و"الكيت كات"، تذهب كثيرا إلى سؤال الإنسان، ذاتا مفردة، عندما تأخذُه أحواله وأوضاعه إلى البحث عن الوداعة والهناءة، وعندما يُغالب قلقا واغترابا ومناجاةً في معنى الحياة وفي نجاحات الإنسان وإخفاقاته ومصائره. ظلت الصورة النابضة بالإيحاء، والسيناريو والحوار المطبوعيْن بالحذاقة، من عُدّة داود عبد السيد عندما يبثّ رؤيةً وفكرا ومنظورا ثقافيا في هذا العمل البصري وذاك. وكان يتيح للممثل أن يستكشف طاقاته بنفسه، بعد أن يختاره جيدا، فالمخرج، بحسبه، يشتغل، بعد اختيار الممثل الجيد، مثل عسكري المرور عند الإضاءات الحمراء والخضراء، يعطي توجيهاته ويكون مرآة للممثل.
يفكّر داود عبد السيد بالسفر خارج مصر. وإذا فعلها اغترابا واستقرارا في الخارج، فإنه في هذا لا يحتجّ فقط على أوضاعٍ لا تجد السينما التي يتقنها مكانا لها، وإنما يرفع بطاقةً حمراء، سخطا على غير شأن وشأن في مصر، فلا يصير زعلانا وحسب. وفي كل حال، صحيحٌ قول من قال إن اعتزال هذا المخرج، الكبير حقا، من أسوأ الأخبار في بداية العام الجديد.