في ذكرى برقيةٍ لم تُرسَل إلى السادات
يروي رئيس الوزراء الأردني الأسبق، الراحل مضر بدران، في كتاب مذكّراته "القرار" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020)، عن جهدٍ بذلَه، والوزيران في حكومته، عدنان أبو عودة وحسن إبراهيم، من أجل عدم إرسال الملك الحسين برقيةً إلى أنور السادات، يهنّئه فيها على "شجاعته" في زيارته القدس المحتلة، ذلك اليوم، 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977. يروي أن البرقية انكتَبت، وكانت جاهزةً لإرسالها وبثّ نصّها في وسائل الإعلام الرسمية الأردنية، كما ألحّ الملك، غير أن بدران أخبر الملك أن الخيانة ليست شجاعة، وأن القرار في شأنٍ كهذا ليس له وحده (في إشارة إلى اتفاقٍ مع حافظ الأسد). ويحكي أن الجدال بينهما أخذ ساعاتٍ، ووصل إلى درجة أن يقول الملك لرئيس وزرائه "تعال اقعُد محلّي وصير ملك". وعلى ما كتب بدران "رجوْتُه أن لا يقول ذلك، وقلتُ له إن من السهل عليّ أن أقدّم استقالتي، وأغادر إلى بيتي، لكني لن أسمح بإرسال البرقية". ... ثم لم تُرسَل البرقية إلى أنور السادات.
تحضُر إلى البال هذه الواقعة، الموجزة التفاصيل هنا (يروي عنها أيضاً عدنان أبو عودة في كتاب يومياته، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، بمناسبة اكتمال 47 عاماً، الأسبوع الجاري، على الانعطافة الكبرى في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، زيارة السادات تلك، والتي أعقبها توقيعُه اتفاقية كامب ديفيد (1978) ثم معاهدة السلام (1979). ... تحضُر إلى الخاطر واقعة البرقية التي لم يتلقَّها الرئيس المصري، في هذه المناسبة، لتَذكّر زمنٍ كان فيه رجالٌ من قماشة مضر بدران، ليس ثمّة مثلهم، في الحال العربي الركيك الذي نعيش، يحيطون بالملوك والرؤساء والأمراء العرب الراهنين. وأيضاً لتَذكّر زمنٍ كان مستفظعاً فيه أيّ اتصالٍ وتواصلٍ عربي، من أي نوع وعلى أي مستوى، مع العدو الصهيوني، فله أهميّته أن يعرف من لم يجايلوا هبوط طائرة السادات في مساء ذلك اليوم، عشيّة وقفة عرفة، في مطار اللد، يتقدّم مستقبليه بيغن وشامير وغولدا مائير وأمثالٌ لهم، أن الأنظمة العربية سحبت سفراءها من القاهرة، وقاطعت السادات وحكومته. من المهم أن يعرِف من لا يعرف، في هذا الزمن العربي الكالح، أن المغنيّة صباح، في تلك الغضون، قوطعت عربيّاً، لا لشيءٍ إلا أنها جالست إسرائيلياً في برنامج تلفزيوني في باريس.
سقى الله على تلك الأيام، كان الملك الحسين يلتقي مسؤولين إسرائيليين سرّاً في أوروبا، لمبرّرات لديه تتعلق بحماية بلده الضعيف من دولة الاحتلال وأطماعها، إلا أن رئيس حكومته لا يُتيح له أن يُرسل برقيةً علنيّة إلى أنور السادات تشيد بما تجادل بشأنها اثناهما، خيانةً أم شجاعة. كانت لدى النظام العربي مناعاتُه، وقدرته على تحصين نفسه، أقلّه أمام شعوبه، من تظهير نفسه مكشوفاً أمام إسرائيل التي لا تريد سلاماً ولا انسحاباً من أي أرض عربية احتلّتها. كان السادات طريفاً، وهو يحدِّث المصريين والجميع بأنه استدعى السفير الإسرائيلي في القاهرة ليطلب منه إبلاغ بيغن انزعاجه الشديد من اعتداءاتٍ إسرائيليةٍ متكرّرةٍ على لبنان. ثم كان الحسن الثاني استعراضيّاً بلا حجةٍ يُقنع بها الجمهور العربي وهو يستقبل شيمون بيريز في منتجع إيفران. لم تكن الشعوب العربية تشتري على محمل الجدّ مقذوفات دول الصمود والتصدّي الكلامية، غير أنها كانت، إبّان هذا، تستحسن كل خطابٍ يعزّز ثقافة العداء لإسرائيل والمشروع الصهيوني.
ليست مياهاً كثيرة هي التي جرت منذ زمن البرقية التي لم تُرسَل إلى أنور السادات وصولاً إلى استثمارات الإمارات في إسرائيل بمليارات الدولارات، مروراً بسفارات للأخيرة في القاهرة وعمّان والرباط وأبوظبي والمنامة (من تالياً؟)، عدا عن اتفاقياتٍ معلنةٍ وغير معلنة مع الخرطوم وغير عاصمة عربية، ليست مياهاً، وإنما هي الهزيمة العربية المشهودة تنوّعت ألوانها، منذ ذلك الزمن، أو ربّما منذ هدن وترتيبات ما بعد حرب 1973، كما رسمها ضبّاطٌ مصريون وإسرائيليون في مفاوضاتٍ واتفاقيات (لم يحتمل مشهدَهم الروائي الأردني تيسير سبول فانتحر؟). إنها الهزيمة التي تستقيل فيها الجيوش العربية من مهامّها، وتصل علاقات دول عربية بدولة الاحتلال إلى التحالف والتزوّد بمنظومات تسليح منها، ويحارِب إسرائيل مجاهدون صبورون محاصَرون في غزّة، ومقاتلون خارج منظومة الدولة في لبنان. إنها الهزيمة المعلنة في انكشاف جسدٍ عربيٍّ مستباحٍ في انبطاحته عارياً ... ربما يجوز إغماض العين عن عوراته بُرهةً، وتَذكّر برقيةٍ لم يقرأها أنور السادات قبل 47 عاماً.