في ذكرى الأبنودي
صادفت، قبل بضعة أيّام، الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر الكبير، عبد الرحمن الأبنودي (1938 - 2015)، عن عمر 77 سنة. أنا، محسوبكم، غير مطّلع على مجملِ الحركة الشعرية في مصر، ولا يحقّ لي إطلاق حكم قيمة على أيّ من شعرائها، ومع ذلك، يحتل الأبنودي، عندي، مكانةً رفيعة، بين شعراء الفصحى والعامية المصريين، مجتمعين.
مَن يبحثْ في تراثِ الأبنودي الشعري، يجد لديه مقدرة استثنائية على إبداع القصيدة الشعبية المُغنّاة، وقد أبدع منها مئات الأغنيات التي شَدا بها مطربون ومطربات، فرسخت في وجداننا. وكتب الأبنودي، كذلك، القصيدة الملحمية، ومثالُها قصيدة "العمّة يامنة"، التي يَظهر فيها نَفَسُه الشعري الطويل، ومُوسيقاه المتدفّقة العذبة، ومقدرته على الغوصِ في أعماق البشر الهامشيين، كتلك العمّة العجوز التي تَفيضُ بما تركته فيها السنون من حكمةٍ، وفلسفةٍ، ودهشةٍ، ونبرةٍ تهكمية.. يامنة؛ رعت ابن أخيها عبد الرحمن طفلاً، وعاصرته شاباً، ورجلاً، وبعدما غاب عنها طويلاً، رأت صورته في "الجرنان" وهو شائب: (وقالوا لي كمان خَلَّفْتْ، وأنت عجوز خلفت يا خوي؟ وبناتْ؟ أمال كنت بتعمل إيه طول العمر اللي فاتْ؟ ما عرفتْ تجبلك حتة وادْ؟ ولا أقول لكْ؟ يعني اللي جبناهم نفعونا في الدنيا في إيه؟)... إلى أن تصل إلى التعجّب من نفسها، وكيف أنّها ما تزال حيّة بعدما مات معظم الذين عاصرتهم، ومات بعض أبنائها وبناتها، فاستنتجت أنّ بقاء الإنسان حيّاً بعد وفاةِ ذويه أمرٌ مرعب، فقدّمت لعبد الرحمن تلك النصيحةَ المدهشة: إذا جاك الموت يا وليدي موتْ على طولْ.
عدا عن السلاسة، والانسيابية، والموسيقى التي تتسرّب في ثنايا قصيدة الأبنودي، يمكننا الحديث عن براعته في رسمِ صورٍ شعرية ناطقة، كقوله، مثلاً: عَدَّى النهارْ، والمغربيّة جايّة تتخفى ورا ضهر الشجرْ، وعشان نتوه في السكّة، شالتْ من ليالينا القمرْ..
هناك، في مصر، وفي كلِّ مكان، شعراء متميّزون، و"الأبنودي" مثلهم، ولكنه يمتلك ميزة إضافية نادرة: الحضور الجذّاب أمام كاميرا التلفزيون. عندما تشاهده، ستجدْ نفسك أمام إنسانٍ مثقف، مطّلع على أدقِ تفاصيل حياة البشر في المجتمعين الريفي والمديني، يمتلك مقدرة استثنائية على سرد الحكايات بطريقة تأخذ بالألباب، فلا تستطيع المغادرة، أو تغيير القناة، قبل أنْ ينهي حديثه الشيّق.
خذ، مثلاً، حكاية لقائه الأوّل مع عبد الحليم حافظ، حكاية عجيبة جداً. يقول إنّه كان يحضُر بروفات أغنية "وَسَّعْ للنور" التي كتبها لمحمد رشدي، ولحّنها بليغ حمدي. دخل عليه في الأستوديو رجلان يرتديان ثياباً تُوحي بأنّهما من الأمن العام، وقالا له: تفضل معانا يا فندم! وبما أنّه تعرّض للاعتقال السياسي قبل هذا مراراً، فقد شرعَ في إعطاء إشارة لبليغ حمدي الذي كان يشرف على الآلات الموسيقية المرافقة للمطرب، وراء القاطع الزجاجي، وحاول أن يُفهمه أنّه معتقل، لكي يدفع عنه إيجار الشقّة، وفواتير استهلاك الماء والنور، ويعطي خرجية لأسرته... ولكن بليغ صار يضحك، وكعادته عندما يضحك، ينطوي على نفسه، ويصغر، ويتضاءل أكثر مما هو صغير وضئيل أصلاً. وكان بليغ، كما تبيّن لاحقاً، يعرف الحكاية، وهي أنّ الرجلين قد أتيا بأمرٍ من عبد الحليم. والمهم، أنّ الأبنودي، وعندما أوصلاه إلى الشقة، ووجد حليم بانتظاره، وأيقن أنّ الاعتقال ليس سياسياً، هجم على الرجلين، وصار يسبّهما، فهربا منه وهما يحلفان له بأنّهما كانا يُنفذان أوامر حليم وحسب. ولم يكن الهدف من هذه العملية مجرّد التعارف بين مغنٍّ صاعدٍ بقوّة، وشاعر يبلغ حدود العبقرية، بل ظهرت لدى حليم غيرة قويّة من محمد رشدي الذي كانت نجوميته صاعدة في تلك الأيّام، من خلال أغنية "عدوية".
ومن دلالات هذه الحكاية، أنّ حليم كان يعرف أنّ نجاح أيّة أغنية يحتاج، في المقام الأول، إلى شعرٍ جميل؛ كذاك الشعر الذي تفيض به عبقرية الأبنودي.