في درس سرديات ماض جزائري
يذهب مؤتمر الدراسات التاريخية الذي يعقده سنويا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في دورته التي انتظمت في مقرّ المركز في الدوحة، أمس وأول من أمس (السبت والأحد)، إلى الجزائر، بعد أن انشغلت الدورات الثماني السابقة بدرس أسئلةٍ وقضايا تتعلق بمقاطع من تاريخ المشرق العربي (فلسطين، العراق، بلاد الشام، ..)، وبمنهجيات البحث في التأريخ، والكيفيات التي انكتب فيها تاريخ العرب، وكذا في دور التاريخ الشفوي. وإنْ لم تبتعد مباحث غير قليلةٍ في المؤتمرات السابقة عن المغرب العربي، بالإتيان على صلاتٍ قامت، في غير شأن، بين جناحي الوطن العربي. واختيار عنوان "الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستين" موضوعا لبحوث مؤتمر اليومين الماضيين يُحسَب تأكيدا متجدّدا من المركز العربي على شمولية نظرته العامة إلى المشهد العربي كله، ماضيا وحاضرا. ولمّا انشغلت، في العموم، أوراق هذه المناسبة العلمية في "إعادة قراءةٍ" لمسار الثورة الجزائرية، وفي مكانتها، و"ما تراكم من سردياتٍ عنها"، فإن مؤتمر الدراسات التاريخية يكون، في هذا، وفيّا للتصوّر الذي ينبني عليه أساسا، وموجزُه أن ينهض المؤرّخ العربي بدرْس الواقعة التاريخية، بمقارباتٍ متنوّعة المداخل والمستويات والأسئلة، لما لذلك من أثرٍ في تطوير البحث التاريخي العربي، وهذا واحدٌ من الأهداف المعلنة لهذا المؤتمر الدوري الذي صار ملتقىً سنويا للمؤرّخين العرب، من أجيالٍ ومرجعياتٍ مختلفة. ومن فضائل جديرةٍ بالتثمين أن أعمال كل مؤتمرٍ يضمّها كتابٌ منشور، ومتوفر، ما ييسّر الإطلالة على هذه المجهودات العلمية التي تُراكِم (في غالبها) جديدا بعد جديد.
لا يعني انقضاء 60 عاما على إنجاز الثورة الجزائرية الاستقلال بعد 132 عاما من الاستعمار الفرنسي، الاستيطاني شديد العنف، أن مرويّات هذه الثورة وسرودَها ميسورةٌ أمام الدارس والمؤرّخ، ولا أنها ثورةُ باقيةٌ، دائما وبالضرورة، في "الأمْثلَة" التي تستحقّها، وتُخلَع عليها، وهي الثورة التي قال عنها المؤرّخ، ناصر الدين سعيدوني، في محاضرته الافتتاحية لأعمال المؤتمر، إنها سعت إلى إعادة "بعث الأمة الجزائرية، واسترجاع سيادتها أمام آلةٍ استعماريةٍ مدمِّرة". ولعل الجديد الخاصّ في هذا الجمع، العلمي الثقافي الأكاديمي، الفكري في أحد وجوهه، بحسب انطباعٍ ارتسم لدى صاحب هذه الكلمات، أن المساهمين فيه، ببحوثهم وأوراقهم، اجتهدوا في تقديم إضاءاتٍ متنوعةٍ على جوانب أخرى تتعلق بالثورة الجزائرية ووقائعها، بنوعٍ من الحفر الفلسفي، السجالي على نحو ما، والاستعادي النقدي فيما يخصّ ما دوّنه شهودٌ وفاعلون محلّيون، والجدالي الذي لا يستسلم لقناعاتٍ متوطّنةٍ ركّزت على البعد العسكري والكفاحي الشعبي العام، من دون أن تكترث، بالمقادير اللازمة، بتفاصيل اجتماعيةٍ وسياسية. وما عوين من مناقشات المؤتمرين بشأن الأيديولوجي والسياسي في الثورة الجزائرية، حضورا أو غيابا، استمرارا أم انقطاعا، بل وصراعا واتفاقا أيضا، وإنْ بالإتيان عليه على مسافة 60 عاما، دلّ على أن ثمّة مناطق بشأن هذا الحدث الكبير في مجرى التاريخ العربي الحديث تُغري بالقول إن مهماتٍ ما تزال مطروحةً أمام المشتغلين بدرس سرديات ماضي الجزائر القريب، سيما، وأن أوراقا ومداخلاتٍ أشارت، وإنْ بغير تفصيل، إلى أن مواضع هناك في ذلك الماضي لها تأثيراتها المقيمة في الراهن الجزائري الذي يستثمر فاعلون فيه، في مواقع الحكم والسلطة والنفوذ، نوستالجياتٍ موصولةً بزمن الثورة، عساهم بهذا يفيدون منه، وهم يواجهون موجاتٍ من السخط والغضب والاحتجاج مشهودة، تُبادر إليها قوى وشرائح مجتمعية متنوعة.
ما تزال موضوعة الحقبة الاستعمارية في الجزائر واحدةً من ملفاتٍ عويصةٍ في العلاقات الفرنسية ــ الجزائرية، سيما بشأن أرشيف هذه الحقبة، وجرائم فرنسية معلومة وأخرى غير معلومةٍ في غضونها، وغير هذا الأمر مما يتصل بمسألة الذاكرة والتاريخ، ولعلّه هذا ما جعل المؤتمر يأتي على الثورة الجزائرية في الذاكرة الفرنسية. وإلى هذا، كانت مهمّةً الالتفاتة إلى حضور الثورة في مدوّنات أميركية، إعلامية ودبلوماسية. وجاء بليغا ربما، أن يسمع متابعو المؤتمر (حضورا وعبر منصّاتٍ إلكترونية) عن الثورة العتيدة في الفضاء العربي، ومنه في محيطها المغاربي، وكذا في ذاكرة الكفاح الفلسطيني. .. ومن قبلُ ومن بعد، تقيم الثورة الجزائرية في مطرحٍ خاصٍّ في الوجدان العربي العام، أما أشواق العرب إلى أن تصير الجزائر في حاضرٍ أحسن وأقوى وأفضل فليس في وسع أحد أن يعدّ مقاديرها.