في دحض "الكذب الإسرائيلي المتفق عليه"!
منذ تكرّس في الخطاب السياسي مصطلح "الكذب الإسرائيلي المتفق عليه"، احتلت عبارة "التعايش اليهودي - العربي" حيّزًا كبيرًا في هذا الكذب. وفي الآونة الأخيرة، ازداد النفخ في كذبة التعايش هذه، بعد أن أظهرت جولات الانتخاب الإسرائيلية الأخيرة أن ثمّة حاجة ضرورية (من غير المبالغة القول إنه لا يمكن الاستغناء عنها) إلى النواب العرب في الكنيست، سواء من أجل الاستمرار مع عهد بنيامين نتنياهو أو في سبيل تغييره.
في ضوء ذلك، أتت هبّة فلسطينيي 48 الحالية إسنادًا للقدس، ومن ثم لغزة، لتفنّد هذه الكذبة ولتدحضها مرة أخرى، ضمن مرّات يصعب حصرها منذ عام 1948. ولن يغيّر من حقيقة أنها كذبة أن احتمال العودة إليها ما زال خيار جهاتٍ متعدّدة، بمن فيها أصوات عربية، وأخرى إسرائيلية معارضة لسياسة اليمين. وهذه الأخيرة تتبنّى، في معظمها الكذبة لفظيًا، وتتعامى عما يُفترض أن يجعلها تنحسر، فهي تتعامى مثلًا عن حقيقة أن تحويل من يتم توصيفهم بأنهم "غير يهود" إلى مواطنين ذوي مكانة أدنى هو الهدف الذي يتوق إليه أغلب الرأي العام الإسرائيلي. وما زال يتردّد صدى الآراء التي قالت إن منح الدولة أفضلية قيمية لليهود أفضى، بالضرورة، إلى منحهم أفضلية سياسية واجتماعية واقتصادية، بما يستحيل معها أن تكون دولة ديمقراطية.
بيد أنه في موازاة ذلك، أظهرت هبّة الداخل مبلغ استشراء ما سبق أن وصفناه، استنادًا إلى اجتهاد أحد الأكاديميين الإسرائيليين، بأنه خصخصة البلطجة السلطوية الموكول لها تنفيذ مهمات كثيرة قذرة، على غرار مخطّطات سرقة الأراضي والممتلكات، والتطهير العرقي، والاعتداءات على العرب .. إلخ. وفي واقع الأمر، منذ ذلك الاجتهاد الذي تناول تلك البلطجة في القدس وسائر الأراضي المحتلة منذ 1967، لم تعد مخصخصة فقط، بل أضحى القائمون عليها ممثلين مباشرين لها في الكنيست الإسرائيلي، وقد يحتلون مقاعد في الحكومة، علمًا بأن كثيرين من أعضاء الكنيست والحكومة داعمون لهم من وراء الكواليس.
وعلى الصعيد الفلسطيني في الداخل، كان لا بُدّ من هبّة شعبية في هذا الوقت بالذات، من أجل إعادة معركة هؤلاء الفلسطينيين إلى سياقها الجوهري، وعدم الاستنقاع فيما يوصف بأنه خصوصيتها، من دون استبعاد ذلك، وهو سياقٌ ليس مدنيًّا فقط، بل بالأساس قومي، كما كان دائمًا، وتعمّق أخيرًا مع سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي، ومع التحوّلات التي طرأت على دولة الاحتلال، وتشفّ عن فرط انزياحها نحو اليمين وازدياد توحشها.
في الوقت عينه، ثمّة أصوات إسرائيلية ما زالت تمتلك رؤية صحيحة، ومن شأن ما حدث أن يتسبّب بفتح عيونها أكثر فأكثر على حقيقة الكذب المتفق عليه. مع أنها ما زالت بمثابة جيوب صغيرة، فهي تخوض معركتها بجدارة، وستبقى معركتها غير المؤجلة، حتى تحت وطأة الأزمة السياسية الداخلية التي لا تحتل الخلافات الأيديولوجية مرتبةً متقدّمة فيها، وما زال مظهرها الرئيسي هو تشرذم أحزاب اليمين، على خلفية معارضة استمرار حكم نتنياهو جرّاء اتهامه بشبهات فساد، لا على خلفية مناهضة سياسته العامة ولا سيما حيال قضية فلسطين وسائر القضايا الإقليمية. وجلّ هذه الأحزاب ترى وجوب استخدام القبضة الحديدية ضد المواطنين الفلسطينيين وصفة لـ"التعايش".
يبقى السؤال المطروح: هل ستتيح الهبّة فرصة جديدة للقوى السياسية الفلسطينية في مناطق 1948 لتقصّي أفكار عديدة جديدة أوجدتها حالةٌ إسرائيلية تعتبر مؤقتة، وقد تزول في حال تنحية نتنياهو عن سدّة الحكم، وقد تُظهر أيضًا أن الغزل مع الصوت العربي جزء من هذه الحالة، يتبدّد مع انتهاء توقيتها؟
من الحقّ أن يُقال إن الذين لم يقعوا في فخّ الكذب الإسرائيلي المتفق عليه لم ينتظروا الهبّة، كي يؤكدوا أن ذلك الغزل لم يكن تحدّيًّا للمعتاد والمتداول من الأفكار والسلوك السياسي، بقدر ما كان بمثابة خطوة نحو التحوّل إلى أداةٍ في خدمة ذلك الكذب، ومصالح بعض السياسيين الإسرائيليين.