في حضرة اليأس السوري
عندما تُعجِزك العبارةُ عن بلوغ المعنى الذي تُريد، وعن قول ما تودّ أن تُفضي به، جوهرِه بالضبط، تلوذُ بالمجاز، لعلّه يُسعِفك. ولكن، أيُّ مجازٍ في وُسعِ مساحاتِه، مهما رحُبت، أن يصل إلى الذي تُريد قولَه عن اليأس السوري المديد، والذي ما فعل الزلزال شيئاً، بالإضافة إلى الموت والأنين الكثيريْن، سوى أنه ذكَّر به، أخذَنا إلى حيث يقيم هذا اليأس الذي لم نعُد نكترث به، من فرط ما صار يوميّاً ومألوفاً وتقليدياً، فلا نصرِف له وقتاً لنتعرّف على جديدٍ عنه ومنه وفيه، ولا نحفل بما بات عليه وما قد يطرأ عليه. ... وفي الأصل، متى كان الانشغال بيأسِ يائسين جذّاباً ومُغوياً لاهتمامٍ أو انتباه؟. هل اليأسُ مرَضٌ له علاج؟ علّة ولها دواء؟ ما أعراضُه؟ كيف للمُصابين به أن يتعافوا؟ هل من ناجين منه أَخبروا عن سُبلٍ سلكوها للشفاء منه؟ هل من تمائم أو تعاويذَ أو أدعيةٍ تساعد الذين هم في يأسٍ على خروجهم منه أو خروجِه منهم؟ هل من مَلَكاتٍ يلزَم أن يتوفّر عليها اليائسون من أجل أن يتعايشوا معه؟ هل تغشى اليائسَ سويداءُ في لحظاتٍ عارضاتٍ أو عابراتٍ، يظنّ نفسَه فيها قد غادر اليأس؟ هل لليأس مراتبُ ودرجاتٌ ومنازلُ تُقاسُ ويُقاسُ عليها؟
سُرَّ الأكراد بقولة محمود درويش، "ليس للكرديّ إلا الريح، تسكُنه ويسكُنها". من يَسُرُّ السوريين بعبارة موحيةٍ موجزة كهذه؟ هل الشحنة العالية في قولة ذلك الشاب السوري، الشديدة الوقْع، بعد أن قضى أهلوه (11 فرداً) تحت الأنقاض في الزلزال: "كلّهم بخير إلا أنا"، قبل أن يأتي خبرٌ آخر (ليس مؤكّداً) عن وفاتِه حزناً، هل تجيزُ لهذه العبارة أن تصير المجاز الأرفع تعبيراً عن كل الأسى واليأس السورييْن؟ أم هو شكر الله وحمده تعالى اللذيْن صدَع بهما سوريٌّ، لأنه وعائلته في الشارع، في الهباء والعراء، لأنهم بلا موتٍ، وإن كانوا بلا شيءٍ ولا ملاذٍ ولا مأكلٍ ولا منام؟ أظنّه معيباً أن يتخيّر واحدُنا أي منطوقاتٍ يجهر بها سوريون مكلومون، لنعدَّها الأصلح لتوصيف الحال السوري العصيّ على الوصف. والمؤكّد، من قبلُ ومن بعد، أنّ شواهد غير قليلة، في مواضع عديدة في غير أرض، دلّت على أن وقائعَ عوينت، وأحداثاً جرت، فاقت قدرات قرائح أدباء ذوي مكانةٍ باهظةٍ. وهذا الجاري في سورية، منذ 12 عاماً وأكثر، والموصول بداهةً بعقود سابقة، منذ احتلّت أسرة الأسد البلاد والعباد، يتحدّى ناسَ الشعر والمسرح والقص، من أهل عجائبيّ الحكي وغرائبياته، أو من أهل أي منحىً آخر، يتحدّاهم أن تأتي مخيّلاتُهم بمثله.
ليس للسوريّ إلا اليأس. هذا ما يقيم عليه إلى زمنٍ غير منظور. انتصر الجميع عليه. لم يُباغتنا الزلزال بهذه الحقيقة تماماً، وإنما أرشدَنا إلى وجوب حسٍّ أخلاقيٍّ تجاه هذا اليأس إن أمكن. تحالفوا عليه، ... الإرهابيون في عصابة النظام الحاكم وحواشيه، وفي عصاباتٍ تسلّحت مثله بالتطرّف الأعمى، والطائفية، وثقافة القتل والثأر. الأميركان والروس والإيرانيون. الأمم المتحدة ببؤسِها وسلحفائيّتها ومصروفات موفديها. العرب الذين جرّبوا فيه ما جرّبوا، ثم آثر بعضُهم حِلفاً مع الرئيس الذي ما صار رئيساً لولا حادثُ سيارة قضى فيه أخوه، مع نظامٍ احترف رمي البراميل المتفجّرة على الناس كيفما اتفق، واستخدَم غاز السارين وغيرَه لخنق أنفاس ناسٍ كيفما اتفق، وحبسَ عشرات الآلاف كيفما اتفق.
تحطّمت سورية، وراحت إلى خرابٍ عظيم، مهمّة المقيم فيها أن ينقطع من أجل تأمين أسطوانة غاز أو ما يتيسّر من قوتٍ يُنجيه من الجوع. سورية الراهنة المُتعبة بما أعمَلَه فيها المجرمون الحاكمون، والطائفيون في هذا الموضع وذاك الموضع، منجمٌ مُنتجٌ لليأس، اليأس الذي نرانا في حضرته، نُحملق فيه، نتفرّج على حوافّه وعلى جوفه، نُخربش عنه، في حوائط رقميّة، وفي صحفٍ وعلى شاشات، ما تتداعى من كلماتٍ نبذُلها، نرتاح لسعة القول فيها عن المعارضة والنظام وتركيا وروسيا وإيران وإسرائيل. يفلتُ منها، غالباً (أو دائماً) السوريُّ ويأسُه معاً، لا نُصادِفنا منتبهين إليهما. السوريّ الذي لا يعنيه ما طبخوه في أستانة، وأي كلامٍ تداولوه في جنيف، وأي قراراتٍ أشهروها في مجلس الأمن، وأي شيءٍ قيل في اسطنبول وطهران وموسكو وواشنطن والرياض و... يعنيه أن ينام بأنينٍ أقلّ، ما أمكن، قبل الزلزال وفي أثنائه وبعده، متروكاً مع يأسِه، وحيديْن، متآلفيْن، إن مات وهو على يأسه فرحمة الله واسعة، وإن بقي حياً، يُرزَق أو لا يُرزق، وهو على يأسِه، فبها ونِعمَت.