في جلاء فرنسا عن سورية
يرى فريق كبير من الدارسين أنّه لا يجوز النظرُ إلى أحداث الماضي من خلال معطيات الزمن الحاضر، وطرائق التفكير الحالية. وعلينا، من ثم، أن نلتمس للذين صنعوا أحداث الماضي الأعذار، ونسامحهم على تخبّطهم، وتخبيصهم، وحتى جرائمهم، بذريعة أنّهم كانوا محكومين بظروفهم التاريخية... إذا فرضنا أنّ هذا الكلام صحيح، فإنّ على الناس الذين سيعيشون في هذه البلاد، بعد مائة سنة، أن ينظروا إلى المجازر التي ارتكبها بشار الأسد بحق الشعب السوري بعين التسامح، على أساس أنّ ظروفاً قاهرة اضطرته إلى قتل الناس.
خلال السنوات العشر الماضية، وفي ذكرى جلاء الفرنسيين عن سورية الذي يصادف في 17 إبريل/ نيسان، كانت تعلو أصوات كثيرة تقول إنّ الاستعمار الفرنسي لم يكن سيئاً، بل حسناً، وأيّ مقارنة يجريها المرء بين الحكم المحلي (الوطني) والاستعمار الفرنسي ستكون لمصلحة الأخير. هذا التفكير، في الواقع، انفعالي، فرضه علينا واقع نظام الأسد الذي ينهب ثروات البلاد، ويثير النعرات الدينية والمذهبية والقومية، ويقتل، ويهجّر، ويستجلب من أجل الحفاظ على سلطته ما هبّ ودبّ من الأنظمة المتخلفة عن العصر، كإيران، وبقايا الأنظمة الستالينية، كروسيا، بالإضافة إلى المليشيات التي يكبّرُ أفرادُها ويصرخون، مستحضرين رجالاً ونساءً من الماضي، وينزلون بأبناء هذا الشعب الغلبان ضرباً وتقتيلاً.
ابتعادنا عن التفكير الانفعالي يأخذنا، من دون شك، إلى تقليب المسألة على وجوهها المختلفة، ووقتها سنزعم أنّ هدف فرنسا التي خرجت (مع بريطانيا) منتصرةً من الحرب العالمية الأولى، لم يكن الاستيطان في سورية، بل الانتداب عليها مدة محدودة، والعمل على تحويلها دولةً مستقلة، ذات حدودٍ واضحة. وبعد انتهاء مرحلة الانتداب، يكون ارتباطُ سورية، اقتصادياً، وسياسياً، ومالياً بفرنسا. ولهذا، أرادت أن تقيم فيها نظاماً جمهورياً يشبه نظامها، بعدما كان الأمير فيصل قد أعلنها مملكة يوم الثامن من مارس/ آذار 1920، وبدأت العمل على إقامة شبكة مواصلات، وأنشأت مؤسساتٍ إنتاجية، كـ"الريجي" التي تصنع السجائر، وأحدثت بنك سورية ولبنان، وطرحت الليرة السورية التي تساوي عشرين فرنكاً في التداول مكان الجنيه المصري، وأحدثت دائرة للمساحة "كاداسترو"... ومع أنّها لجأت إلى العنف في البداية، فقد انتهجت مع الناس سياسة اللين، ورسّخت فكرة احترام القانون واستقلال القضاء... روى فؤاد عزام حكايةً من دفاتر القضاء الذي أنشأه الفرنسيون في سورية، أنّ أحد الأشخاص في دمشق هلّل فرحاً عندما قصفت طائرات هتلر باريس خلال الحرب العالمية الثانية، وقال، بالعامية ما معناه، إنّ هتلر فعل كذا وكذا بأم "ديغول". وكان أحد العسس السوريين موجوداً، فوشى به، وأوقفوه في مخفر للدرك... وحينما اطّلع القاضي على مرافعة الادعاء، قال: لم تثبت لدينا واقعة أنّ هتلر مارس الفعل الذي ذُكر في البلاغ، ولهذا تبقى المسألة في إطار حرية التعبير .. وأطلق سراح المتهم.
وهذا لا يساوي إلا القليل أمام محاكمة إبراهيم هنانو الذي شكل، في ريفَي إدلب الغربي والجنوبي، مجموعةً مسلحة، قاتل بها الفرنسيين، وكبّدهم خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، ومع ذلك قُدم إلى محكمة عادلة، وسمح لمحاميه فتح الله صقال بأن يدافع عنه، والناس الذين تجمعوا للتضامن معه لم تفرّقهم قوى الأمن، وبُرّئ من تهمة الإرهاب، واعتُبر مناضلاً وطنياً. وبعد إطلاق سراحه عاش في حلب ومارس حياته بكلّ حرية إلى حين وفاته.
كاتب هذه السطور، حتى نكون واضحين، ليس ممن يدافعون عن أيّ دولةٍ أجنبيةٍ تحتل سورية، أو تفرض عليها وصايتها. لكنّ من يفكر بعقلية اليوم، يصل إلى نتيجة مخيفة، أنّ الضباط المغامرين الذين تسابقوا في الوثوب إلى السلطة، منذ جلاء فرنسا، والجماعات التي التفّت حولهم، فعلوا عكس ما كانت تفعله فرنسا: قتلوا وضربوا وخرّبوا، وجعلوا المواطنين رعايا، وحوّلوا الدولة إلى عصابة.