في "تقدّمية" زوجة بايدن
لمّا أطلّت الأميركية، الزنجيّة أماندا جورمان، تقرأ شعراً لها في حفل تنصيب الرئيس جو بايدن، في يناير/ كانون الثاني 2021، على العالَم، أخذاً بتقليدٍ في هذه المناسبة الدورية (كسرَه ترامب فلم يُقرَأ شعرٌ في حفلِه)، بدا المشهدُ كأنه ينطق بدلالةٍ يقصدُها بذاتها، سيّما وأن الشاعرة خرّيجة "هارفارد"، وكان عمرُها 22 عاماً، جاءت في قصيدتِها على "الذين أرادوا تمزيق أميركا، فيما يستطيع الأميركيون أن يتغلّبوا على الكراهية"، في إشارةٍ إلى أنصارٍ لترامب اقتحموا مبنى الكونغرس. في تلك الأثناء، عَبَرَ خبرٌ لم يُكترَث به، أن جيل بايدن، زوجة الرئيس المنتخب، هي من اختارت هذه الشابّة شاعرةَ الحفل. ونمّ هذا الاختيار عمّا جاز اعتبارُه نزوعاً "تقدّمّياً" تقيم عليه زوجة الرئيس الجديد الذي وافقت على زواجِه منها، إبّان شبابهما، في 1977، بعد تردّد، وقد طلب الاقتران بها خمس مرّات، وهي التي كانت قد انفصلت عن زوجٍ سابق (لاعب كرة قدم)، وهو (بايدن) الذي كان قد ترمّل، قبل نحو خمس سنوات، لمّا قُتلت زوجتُه السابقة وابنةٌ رضيعةٌ لهما في حادث سيّارة. وتلك "التقدّمية" (أو ذلك النزوع إليها ربّما)، الملحوظة في الانتباهة إلى شاعرةٍ سمراءَ قرأْنا أن قصائدَها تناهض التهميش والعنصرية والاضطهاد، و"تنشغلٌ بالأفارقة وتيه العبيد"، أغرَت بالنبش في سيرة هذه المرأة (جيل بايدن)، وبمحاولة تنبّؤ ما يمكن أن تُبادر إليه في مُقامها في البيت الأبيض زوجةً لأقوى رئيس في العالم.
ما أذاعه بايدن، قبل أيام، أن زوجتَه تحثّه على إيقاف الحرب الجارية في غزّة "الآن وفوراً"، وما جاءت عليه "نيويورك تايمز" (وربما غيرُها) في هذا الأمر، يذكّران بتلك الانتباهة إلى الشاعرة أماندا جورمان، من جيل بايدن (1951) التي لا يُعثَر في أرشيفها على تعاطفٍ في حشاياها تجاه الفلسطينيين، ولا على شغفٍ ظاهرٍ بإسرائيل. ولم يؤتَ، في السنوات الأربع، إلّا نادراً جدّاً، على آراء سياسية لها أفضَت بها إلى بعْلها، في محاولة التأثير عليه، وإنْ جاء خبرٌ نُسي في حينه إنها ارتاحت لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. وظلّت صورتُها امرأةً شغوفةً بمهنة التعليم التي واظبت عليها سنوات، وبقيت تزاولها مدّة في أثناء صفتها "سيدةً أولى" (وصفٌ لا تستحسنه)، ونشطةً في التشجيع على تمكين المرأة من حقوقِها، وداعمةً زوجَها في كل شأن، فلا ترى، مثلا، في شيخوخته الراهنة ما يخصم من أهليّته للترشّح لولاية رئاسية ثانية. ولا تتجاوز حدوداً مرسومةً لها، لئلا تورّطه في زوابع تؤثّر على عمله، وعلى "فرص" نجاحِه رئيسا في الانتخابات المرتقبة مع خصمٍ شرس اسمُه دونالد ترامب. وهكذا، من باب ثقة الرئيس في حدْسها زوجةً، وليس كشخصية سياسية أو مستشارة، كما أوضحت قبل ثلاث سنوات، لم تتعدّ القول بضرورة وقف حربٍ يُقتل فيها مدنيّون فلسطينيون بأعدادٍ لا تُحتمل، وهي التي صاح فيها، قبل أربعة أسابيع، ناشطون في أثناء إلقائها كلمةً في جمْعٍ في أريزونا من أجل حقوق المرأة (الإجهاض وغيرِه)، بما يشبه التقريع لصمْتها عن عذابات النساء في غضون حرب الإبادة (بتعبير من صاحوا ساخطين) في غزّة، ثم لم تعقّب بشيء، غير أنها أظهرت، تالياً، عدم رضاها عن تمادي إدارة زوجها في إسناد الحرب هناك، مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين، في امتناعها عن حضور اجتماعٍ في البيت الأبيض مع ضيفٍ زائر، ثم في "إلحاحِها" على زوجها من أجل أن يوقف الحرب "الآن"، سيّما مع قتل الجيش الإسرائيلي سبعة مغيثين في منظمّة المطبخ المركزي العالمي (مقرّها الولايات المتحدة).
مؤكّدٌ أن زوجات الرؤساء الأميركيين لا يستطعن أن يكنّ كما كانتا عليه ليلى بن علي في تونس وسوزان مبارك في مصر (وغيرهما)، وما هي عليه أسماء الأسد في سورية، أي من عناوين فسادٍ ونهبٍ في هذه البلاد. ومؤكّدٌ أنه ليس في مقدورِهن أن يُحرِزن التأثير السياسي (إلى حدِّ ما) على أزواجهن، كما الذي كانت عليه الوسيلة بورقيبة في تونس وجيهان السادات في مصر، فالدنيا هناك، في أميركا، غيرُها في بلادنا السعيدة إياها. ولكن، في مقدور جيل بايدن أن تهمِس لزوجها بأن يوقف حرباً شنيعةً في غزّة، ويعلن بنفسِه هذا، ونستحْسن هذا القسط من "تقدّمية" هذه المرأة، وبهذه الحدود فقط.