في تعريف "الجمهورية الجديدة"

15 مارس 2021

(قيس سلمان)

+ الخط -

قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إن تدشين المدينة الجديدة المسمّاة "العاصمة الإدارية" سيكون إعلاناً لميلاد "جمهورية ثانية". وهي المقولة نفسها التي تبنّاها عبد الفتاح السيسي قبل مدبولي بأيام. ولم يكشف أيّ منهما عمّا يقصدانه تحديداً بالجمهورية الثانية. ولا كيف يمكن الأبنية الإسمنتية التي ستنتقل إليها المؤسسات الحكومية أن تؤسّس "جمهورية" جديدة. لمجرّد أن تلك الأبنية الجديدة ذات طرز معمارية حديثة، وتتمتع بإنترنت سريعة، ووسائل نقل حديثة.
"الجمهورية الجديدة" اصطلاحٌ جرى صكّه في فرنسا، على خلفية مراحل التطوّر السياسي لفرنسا، منذ قيام ثورتها الشهيرة التي صارت نموذجاً للثورات والتغييرات السياسية الجذرية للدول في العالم. انتقلت فرنسا عبر خمس جمهوريات، ويعيش مواطنوها في ظل الخامسة، منذ عام 1958. وفي كل من تلك الجمهوريات، كان الدافع إلى التغيير مدى استجابة النظام السياسي القائم لتلبية مطالب المواطنين وتطلعاتهم، في ارتباطٍ استحدثته الثورة للمرّة الأولى، تخلّصاً من الإرث الثقيل للإمبراطورية الفرنسية، بما فيه من استبدادٍ وقمعٍ وعنصريةٍ وفقرٍ وشخصنة. لذا، كان شعار الثورة الفرنسية "حرية، مساواة، إخاء" الذي لم يتضمّن الرفاهة أو القوة، بل ولا العدل، ولا حتى المواطنة، فكلها قيم تتحقّق تلقائياً بتحقق الحرية والمساواة والإخاء. من هنا، جاء توالي الجمهوريات الفرنسية، لتصحيح نطاقٍ محدّد، هو الإطار الدستوري، وما يرتبط به من نظام سياسي. بما يُفترض فيه تجسيد تلك القيم وترجمتها على الأرض في الممارسة الفعلية للدولة الفرنسية، من خلال هذه "الجمهورية"، سواء التي بدأ بها الفرنسيون بعد ثورتهم، أو انتقلوا إليها لاحقاً مرة واثنتين وثلاثاً، حتى صارت خمس جمهوريات.
وفي كل مرة، كانت غاية الفرنسيين مزيداً من الحرية والتقدّم الإنساني، وليس فقط السياسي أو الاقتصادي. عبر تلافي النواقص وتقوية الأسس الدستورية والأعمدة القانونية التي تحمي "الدولة"، وتحيطها بسياج حارس. هذا هو المسمّى السحري "الجمهورية"، الذي لا يعني بناءً من حجارة أو مؤسساتٍ تتبع السلطة السياسية، ومُسخَّرة لخدمتها، بل هي كناية عن ملامح واضحة، وإن كانت غير مادية، للتوافق الجمعي حول القواعد والمبادئ الارتباطية والرقابية والمصلحية المتبادلة بين الحاكم والمحكومين، أو بالأحرى بين الناس ومن اختاروه بأنفسهم وبإرادتهم الحرّة ليحكمهم.
مصر متأخرة جداً عن تلك المراحل المتقدّمة للحراك، من أجل الحرية والرقي الإنساني. ولم تعرف يوماً ذلك العقد الاجتماعي الذي يجمع المواطن والسلطة في علاقة التزامٍ متبادلة، مُحدّدة الحقوق والواجبات على الطرفين. بل لم تعرف مصر "الجمهورية" نظاماً للحكم، إلا قبل 70 عاماً، ولا تزال معرفتها به اسماً وعنواناً أكثر منها ممارسة وفعلاً، فحرص حركة الضباط، التي استولت على الحكم في 1952، على الابتعاد بالدولة المصرية عن النظام الملكي، كان ولا يزال أشدّ من سعيها إلى تأسيس نظام جمهوري أو بنائه حقاً.
وكما أن المسمّى "الجمهوري" للنظام لم يتغير طوال هذه العقود، فإن محتواه من مبادئ دستورية أساسية، وقواعد عامة منظمة للحياة السياسية، لا يزال جامداً، كما صاغه الضباط الأحرار وحواريوهم القانونيون، بدءاً بعبد الرزاق السنهوري، مروراً بعائشة راتب ورفعت المحجوب وفتحي سرور وغيرهم، وأخيراً بمفيد شهاب.
لا صلة مطلقاً بين إنشاء مدينة جديدة وتأسيس "جمهورية" جديدة. سواء كانت تلك المدينة سكانية أو صناعية أو حتى إدارية، فالمنشآت العمرانية، أياً كان غرضها، ليست صنواً للأسس الفكرية والأطر القانونية التي تدار الدولة وفقاً لها. وأي محاولةٍ للتشبيه، أو الربط، بين "تأسيس" جمهورية جديدة و"تأسيس" مدينة جديدة، لا محل لها إلا عند من يخلطون تدشين المبنى بتأسيس المعنى، وإقامة الجدران ببناء الإنسان.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.