في تذكّر "مالك الحزين"

18 نوفمبر 2016
+ الخط -
طبيعيٌّ أن يكون "الشيخ حسني" الضرير في فيلم "الكيت كات" (إنتاج 1991) أبدع الأدوار التي أدّاها النجم محمود عبد العزيز في السينما، ليس فقط لأنه تفوّق فيه، بأداء أخّاذ، بل أيضاً لأن قدرات أيّ ممثلٍ بارعٍ إنما تُختبر في تمثّل الشخصيات ذات المواصفات الخاصة، ففي وسع كثيرين أن يُجيدوا في أدوار أستاذ الجامعة ورجل الأعمال والأب والموظف، غير أن قليلين يبرعون في تأدية أدوار الأعمى والأخرس والمشلول والمعتوه والمجنون. ولهذا، فإن مشهد صلاح منصور في تحفة صلاح أبو سيف "الزوجة الثانية" (1967)، نصفُه مشلولٌ على السرير، يحاول انتزاع بندقيّته من على جدار الحجرة، ثم سيره إلى النافذة، ليصوّب على زوجتيه المتشاجرتين (سناء جميل وسعاد حسني)، لا مبالغة في اعتبار هذا المشهد من أهم ما شوهد في السينما العالمية. وكان بالغ الإدهاش أداء داستن هوفمان في فيلم "رجل المطر" (1988). ولا يُغفل أبداً أداء محمود ياسين دوري الأخرس في "الأخرس" (1980) والزبّال في "انتبهوا أيها السادة" (1978). ولكن الضرير في "الكيت كات" لم يكن ضريراً فحسب، كان شخصيةً (أو حالةً؟) مبتهجةً بالحياة، أو على الأصح، تُصارع ضغوط الحياة وعنَتها باستدعاء الفرح، يحتال عليها، ويتعاطى الحشيش، ويغنّي ويعزف على العود. 

انتشل داود عبد السيد هذه الشخصية المركّبة، من رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" (1983)، وجعلها بطل فيلمه، فيما هي ليست مركزيةً في الرواية. وجعل يوسف، الشاب المثقف المحبط، خرّيج الجامعة العاطل، الخائف، ابنه، فيما هو ليس كذلك في الرواية التي يكاد يكون البطل الأول فيها. وذلك في تغييرٍ غير قليل أحدثته كتابة داود عبد السيد وإخراجه الفيلم على الرواية القصيرة (نحو 140 صفحة) التي تبلغ الشخصيات فيها نحو مائة، والتي لا مساراً لحكايةٍ متتابعةٍ فيها، وإنما تتلملم فيها حكاياتٌ وفيرةٌ تتقاطع، وتتداعى في سرد الراوي، كيفما اتفق أَحياناً، في زمن القصّ الذي لا يتجاوز يومين، في حي إمبابة الشعبي في القاهرة. ويمكن حسبان موت بائع الفول "العم مجاهد"، وقرار إخلاء المقهى لإقامة بنايةٍ مكانها، حدثيْن تطوف عليهما التفاصيل والوقائع المتناسلة من بعضها في الرواية. أبقى عبد السيد على بعض الشخصيات، وأقام أحياناً علاقاتٍ جديدةً بينها، واستغنى عن كثيرين، وحافظ على الروح العامة في الرواية، لكن الأبرز، في عمله هذا، أنه صنع من شخصية "الشيخ حسني" بؤرةً مركزيةً في الفيلم الذي يُحسب كوميدياً اجتماعياً، على غير حال الرواية، المتقشّفة، المستغرقة في وصف الأشياء وفضاءات المكان، والحياديّة إلى حد كبير في تظهير الشخصيات التي انشغل السرد بعوالمها الخارجية، من دون اكتراثٍ بدواخلها.
ومما أحدثه مخرج الفيلم وكاتبه أنه سمّاه "الكيت كات" باسم مكان مشهدياته في حي إمبابة، والمعنى البادي في هذا الإجراء، البالغ الوجاهة، أن المكان ليس فضاءً فقط، وإنما مركزيٌّ جداً في الفيلم السينمائي، كما في الرواية التي يعدّ المكان البطل الأساسيّ فيها، ما دام لا بطولةَ واضحةً لأيٍّ من شخصياتها المتعدّدة. وعندما يختار إبراهيم أصلان اسم ذلك الطائر الجميل، مالك الحزين، الذي يعيش عند الأنهار، وإذا ما جفّت يصير في حزنٍ يعبّر عنه في تغريداتٍ حزينة، فذلك يوحي بإحالةٍ إلى ما صار يُصيب مجتمع إمبابة من تصدّع، أو تحوّل، أو غروب، مع وفاة "عم مجاهد" الفوال وهدم مقهى الحي، فيما ناسه طيبون ووديعون. وقد يحيل هذا الاسم، أيضاً، إلى الحزن المقيم في شخصية يوسف النجار، الشاب المثقف الخائب، والموجوع بفشله وقلة حيلته، بل وضعفه الجنسي أيضاً. لم يحفل الفيلم بالأمريْن كثيراً، وإنما عمد إلى تشخيص مغالبة العيش بالفرح الشفيف الذي يقيم عليه "الشيخ حسني"، الضرير الذي يعدّ حواره مع "عم مجاهد" الميّت، قبل أن يعرف أنه ميّت، مشهداً بالغ الحرارة في الفيلم (أظنه مشهداً غير حاضر في الرواية؟)، فبدت مكاشفةُ الكفيف مع الميت عن أحوال الدنيا إيجازاً عن حالٍ أعمّ وأوسع. وكانت الرغبة بهزيمة الواقع واضحةً في "الشيخ حسني"، في فيلم"الكيت كات"، وفي رواية "مالك الحزين" التي أخذتنا وفاة الفنان محمود عبد العزيز، أخيراً، إلى استعادتها، والتملّي في تلك الروح المصرية المتعبَة فيها.


معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.