في تذكّر حصار تعز
يبرَع الحوثيون في اليمن في استنزاف خصومهم، ليس عسكرياً في ميادين المعارك وجبهاتها فحسب، وإنما أيضا في جولات التفاوض والمحادثات والوساطات المتقطعة والصعبة. يجيدون شراء الوقت وتمييعه. يحترفون اصطناع المتاهات في محادثاتٍ مع لجنةٍ تتشكّل من أجل هذا الملفّ، وفي التحفظ على لجنةٍ أخرى بشأن ملفٍّ آخر. وللحقّ، غالباً ما ينجحون في إثارة التشويش الإعلامي في الأثناء، فلا يصير في وُسع المراقب الوقوع على الصحيح وتمييزه عن غير الصحيح. وعندما تتيح فضائياتٌ لممثلين عن الحوثيين (أو أنصار الله، كما يلحّون على تسميتهم هذه)، تراهم، أنت المستمع المشاهد، متمكّنين في صياغة ما يقولون، وفي دسّ الدعائيّ مع الحقيقي، مع إضافاتٍ لازمةٍ، بمناسبةٍ وغير مناسبة، عن "العدوان السعودي"، وضرورة وقفه لتحقيق السلام في اليمن. وتكاد المهارة البادية لديهم، في جرجرة الوسطاء والملتحقين بقوى العدوان (على ما ينعتون خصومهم اليمنيين)، إلى مفاوضاتٍ تلو أخرى، ثم الوصول، بشقّ الأنفس، وبعد جهدٍ مضنٍ، إلى نتائج متواضعةٍ، في شأن هذه الجزئية أو تلك، تكاد تماثل النهجيْن، الإسرائيلي والحكومي السوري، على طاولات التفاوض والتداول في هذا الشأن وذاك. ولمّا كان إسحق شامير قد توعّد الفلسطينيين، بعيْد مؤتمر مدريد (أو في أثنائه، لا أتذكّر)، بأن يُرهقهم عشر سنواتٍ في مفاوضاتٍ لا تخرُج بشيء، فإنّ النظام في دمشق يزاول هذا بكفاءةٍ عاليةٍ، عندما يأخذ المعارضة، ومعها مبعوثو الأمم المتحدة، وبإسنادٍ روسيٍّ وإيرانيٍّ ظاهريْن، إلى مفاوضاتٍ وجلساتٍ في أستانة وجنيف وسوتشي، مرّةً من أجل تأويلات قرارٍ أممي، ومرّةُ لخفض تصعيد، وأخرى (أو أخريات على الأصح) من أجل التوافق على تركيبة لجنة دستورية، لصياغة دستور لن ينكتب. والبادي أنّ الحوثيين يقتدون بصنيع الإسرائيليين الباهر في تيئيس الفلسطينيين من أي أملٍ يمكن أن يظفروا به في مفاوضات ما بعد شامير، ويستأنسون بما يحترفه معاونو بشار الأسد في تتفيه فكرة التفاوض نفسها، وإيثار البقاء في مربّع الاحتراب والقتل والتصعيد.
مناسبة الإتيان على البديهية أعلاه أنّ الحوثيين يحاصرون مدينة تعز منذ صيف العام 2015، بإغلاق الطرق المؤدّية إليها، وما زالوا على هذا، على الرغم من أنّ رفع هذا الحصار واحدٌ من بنود اتفاق استوكهولم الذي وقّعوه مع الشرعية اليمنية في نهاية 2019. وقد اشترط هؤلاء، لفتح الطرق إلى المدينة التي يعاني ساكنوها من نقصٍ حادٍّ في الغذاء والدواء، استئناف الرحلات الجوية التجارية عبر مدينة صنعاء، والسماح بدخول الوقود عبر ميناء الحديدة، غير أنهم لم يتجاوَبوا بشأن مطلب رفع هذا الحصار الشنيع من كل الجهات على المدينة وناسها. وفيما ذكرت الأخبار، أخيرا، إن مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، الذي يرعي الهدنة الجارية في اليمن، ومدّتها شهران، وتنتهي في 2 الشهر المقبل (يونيو/ حزيران)، يأمل استمرار الهدنة. وأفيد بأنه تسلّم أسماءَ قائمة الوفد الحكومي الذي سيتفاوض قريبا في محادثاتٍ في عمّان مع الحوثيين، ولم يتسلّم بعد أسماء وفد هؤلاء. وبحسب تقديراتٍ وتقارير إخبارية، فإن "قضية" رفع الحصار عن تعز سيكون من بنود المفاوضات المرتقبة. وذلك فيما وجّه رئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن، رشاد العليمي، في 18 مايو/ أيار الحالي، خطاباً إلى الأمم المتحدة، طالبها فيه بضغوطٍ على الحوثيين من أجل استكمال بنود الهدنة، بما فيها إنهاء حصار تعز، وفتح المعابر والطرق المؤدّية إليها. والأرجح هنا أنه صحيحٌ كلّ الصحة قول رئيس الوفد الحكومي المفاوض في قضية هذا الحصار، عبد الكريم شيبان، إنّ فتح ميناء الحديدة وتشغيل مطار صنعاء، قبل فتح طرق تعز ومنافذها، خطوتان دفعتا المليشيا الحوثية، بتعبيره، إلى مزيدٍ من التعنّت حيال المدينة، بعد تلبية مطالب هذه المليشيا من الهدنة الأممية.
وبالنظر إلى أرشيفٍ مثقلٍ بمماطلاتٍ حوثيةٍ بلا عددٍ في غير شأن، وإلى اختلالاتٍ ميدانيةٍ في الأداء العسكري لقوى الشرعية، وإلى بؤسٍ غير خافٍ في غير موضوعٍ في الأداء السياسي لقوى الشرعية وحكومتها، لا يكون مستبعداً أن تفشل مفاوضات عمّان بشأن تعز. ولا يُغادر واحدُنا الحقيقة لو خلع على الأمم المتحدة القسط الأهم من المسؤولية في استمرار قضية حصار تعز، على الرغم من تقْدِماتٍ غير قليلةٍ من الشرعية باتجاه الحوثيين .. لكن، من قال إنّ إسرائيل ونظام دمشق اكترثا يوما بالأمم المتحدة، فلماذا لا يفعل هؤلاء هذا، وهذان قدوتان، إذا أبعدنا إيران مؤقتاً.