في تبرير القتل والإذلال
خلال الستين يوماً من العدوان الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزّة، تفنن المسؤولون الغربيون، ومن ورائهم الإعلام، في تبرير الوحشية الإسرائيلية والتشكيك بمصداقية الفلسطينيين الذين يُقتلون يومياً على الهواء مباشرة. فرغم سقوط نحو 18 ألف شهيد فلسطيني، فإن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تر دليلاً على تعمّد إسرائيل قتل المدنيين. هذا ما قاله المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، قبل أيام في بيان صحافي، مبرّراً ذلك بأن "إسرائيل تُصدر طلبات إخلاء" قبل القصف. في نظر واشنطن، كل الشهداء الفلسطينيين، الأطفال والنساء، هم مجرّد أضرار جانبية في الحرب الإسرائيلية.
ميلر نفسه لم يتوان عن الإشادة بالعمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب قطاع غزّة، مشيراً إلى أن إسرائيل باتت "تصدر طلبات إخلاء أكثر تحديداً مقارنةً بما جرى في الأسابيع الماضية في شمال القطاع". ومع ذلك، سقوط الضحايا المدنيين أمرٌ متوقع في العدوان الإسرائيلي، لأن "هذا يحدُث للأسف في جميع الحروب"، وفق تعبيره.
الولايات المتحدة، ورغم ما يثار عن المهلة التي وضعتها لإسرائيل في حربها، فإنها لا تزال داعمة للقتل، وهو ما اتّضح من الفيتو الأميركي في مجلس الأمن ضد قرار وقف إطلاق النار، بل ما زالت ترفع طلبات للكونغرس، لتزويد دولة الاحتلال بمزيدٍ من الأسلحة لاستخدامها في الحرب.
ميلر، وفي المؤتمر نفسه، أشار أيضاً إلى أن الولايات المتحدة "ليس لديها معلومات تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تستهدف الصحافيين في هذا الصراع". على الرغم من أن استهداف الصحافيين ليس جديداً على دولة الاحتلال، وليس في هذه الحرب فقط، بل على مدى سنوات الصراع، وهو ما عاينته الولايات المتحدة بنفسها عند اغتيال الصحافية الفلسطينية الأميركية شيرين أبو عاقلة العام الماضي.
ربما على الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الغربية الداعمة للاحتلال، مشاهدة فيديو اعتقال المدنيين في شمال قطاع غزّة، وبينهم مدير مكتب "العربي الجديد" الزميل ضياء الكحلوت، والذي لا يزال معتقلاً في مكانٍ مجهول. فيديو صوّرته دولة الاحتلال على أنه "لاستسلام" مجموعة من مقاتلي "حماس" في بيت لاهيا، قبل أن تنفضح الكذبة، كما أكاذيب كثيرة تم ترويجها منذ بداية العدوان في 7 أكتوبر. فيديو يحمل كل معالم الإذلال للمدنيين والصحافيين.
ورغم الاهتمام النسبي الذي أبدته بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية بالحادثة، فإنه بقيت هناك ملامح تبرّر للاحتلال فعلته، فبعض الإعلاميين الذين تم الحديث معهم سألوا ما إذا كان الزميل أبلغ الجيش الإسرائيلي الذي اقتحم منزله، وأحرقه بحسب شهادة زوجته، بأنه صحافي، على اعتبار أن هذا كان من الممكن أن يغيّر من طبيعة تعاطي الجنود معه. لكن الواقع هو العكس تماماً، فمعرفة الاحتلال بأنه صحافي كانت من الممكن أن تضاعف الإذلال الذي تعرّض له مع أشقائه والفلسطينيين الصامدين في شمال قطاع غزّة. وربما لأنه صحافي، لا يزال الاحتلال محتفظاً به معتقلاً، رغم خروج بعض من جرى اقتيادُهم معه.
برّر إعلاميون آخرون مشهد إجلاس المعتقلين على الأرض بعد تجريدهم من ملابسهم، بأنه إجراء تفتيش لضمان عدم وجود سلاح معهم. وكانت الإجابة أنه كان من الممكن إنهاء التفتيش والسماح بارتداء الملابس، بدل تصوير المشهد وتوزيعه على أنه "نصر عظيم". وحتى حين تم التطرّق إلى وضع المعتقلين في هذا الموقف في ظل الحرارة المتدنّية، كان السؤال "ما هي درجة الحرارة الآن في غزّة؟".
هناك دائماً محاولات غربية لتبرير أفعال إسرائيل بشكل من أشكال، مهما كانت الأدلة واضحة ودامغة، فثمّة قناعة غربية لم تزحزحها كل الجرائم اليومية المرتكبة، بأن إسرائيل "دولة مدنية ديمقراطية"، وبالتالي، فهي دائماً بريئة إلى أن يثبت العكس، والعكس ممنوع إثباتُه.