في التطبيع السوداني الإسرائيلي
التقى مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن، خليل جهشان، وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، قبل ساعات من توجّه الأخير إلى المنطقة الأسبوع الماضي، بهدف تنويره بما يحسُن أن تبادر إليه الولايات المتحدة بشأن سياسة دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، غير أن الوزير تحدّث عن دفع عملية التطبيع بين العرب وإسرائيل، فاستشعر زائرُه ضرورة أن يعرف مضيفُه بأن 84% من المواطنين العرب يعارضون الاعتراف بإسرائيل ورفضهم أي علاقاتٍ معها، بحسب ما كشف المؤشّر العربي 2022، وبذلك يجدُر بأن تكون أولوية السياسة الأميركية في المنطقة العربية في غير هذا الموضع. ويحدّث البروفسور جهشان صاحب هذه السطور إن بلينكن اهتمّ بما سمع، وأراد استزادةً منه. .. ولكنه الحولُ المديدُ لدى صنّاع السياسة الخارجية في واشنطن لا يغادرهم، ففي مؤتمره الصحافي المشترك مع نتنياهو، بعد محادثاتِهما في القدس المحتلة، لم يأتِ بلينكن على أيٍّ من جرائم المحتلين في جنين وغيرها، وقال إن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز اتفاقيات أبراهام لتعزيز أمن إسرائيل في المنطقة، و"توسيع دائرة الأمن والسلام بين إسرائيل ودول المنطقة". أما نتنياهو فقال إن حكومته تسعى إلى تعميق اتفاقيات أبراهام، وتحقيق اختراقات "دراماتيكية" في هذا الخصوص.
لا تُعدّ زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، الخرطوم، ساعاتٍ بعد مغادرة بلينكن المنطقة، اختراقا دراماتيكيا، فالعلاقات، ذات البعد الأمني والاستخباري خصوصا، بين السلطة التي استجدّت في السودان بعد انتفاضة 2019 ودولة الاحتلال، متواصلة ونشطة، والزيارات المتبادلة، المعلنة وغير المعلنة، لم تتوقّف. أما أن اتفاقيةً رسميةً على تبادل العلاقات الدبلوماسية لم تُوقّع بعد فأمرٌ تفصيلي، بالنظر إلى حرارة العلاقات التي دشّنها لقاء عنتيبي بين رئيس مجلس السيادة السوداني (الانتقالي؟)، عبد الفتاح البرهان ونتنياهو، في عنتيبي (أوغندا) في فبراير/ شباط 2020، وطبخته أبوظبي بدفعٍ أميركي. وهذه صحيفة هآرتس استَبَقت زيارة كوهين بنشرها نبأً عن قرب توقيع اتفاق سلام سوداني إسرائيلي قريبا. وهذا كوهين نفسُه، وهو الذي زار الخرطوم بصفته السابقة مديرا للمخابرات في 2021، يعلن، في نبرةٍ تهكّميةٍ من التاريخ، ساخرا من لاءات الخرطوم الثلاث (1967) المقيمة في الأرشيف العربي إياه، فيصرّح إنه عاد من العاصمة السودانية بنَعَمٍ ثلاث، للسلام والمفاوضات والاعتراف. وتحدّث عن "لمساتٍ أخيرة" تجري على مسوّدة "اتفاق السلام" المرتقب، والتي ناقشها مع البرهان (لماذا حرص حميدتي على القول عن عدم درايته بالزيارة، وعدم حضوره المباحثات؟)، وإن حفل التوقيع بعد تشكيل حكومةٍ مدنية.
ليس فقط أن بلينكن ومساعديه في الخارجية الأميركية، وطواقم البيت الأبيض، لا يعرفون عن رفض الشعوب العربية إسرائيل وأيّ علاقات معها، بل البادي أيضا أن عبد الفتاح البرهان ومعاونيه لا يكترثون بأمرٍ كهذا، والأوْلى عند الرجل الأول في بلد اللاءات الثلاث البعيدة أن ترضى عنه واشنطن وأبوظبي، وفي الأخبار أن إدارة بايدن ضغطت (الأصحّ طلبت) عليه، من أجل تسريع الوصول إلى "اتفاق السلام". والأرجح أنه لا يعرف ما يُخبر عنه المؤشّر العربي، وقد صار وزير الخارجية الأميركية على درايةٍ به، إن 49.6% من السودانيين يرون إسرائيل الأكثر تهديدا للأمن العربي، وإن 41% يرون السياسة الأميركية تجاه فلسطين سيئة جدا، و30% يرونها سيئة. وإن 68% يعدون قضية فلسطين قضية جميع العرب، و19% يرونها قضية الفلسطينيين وحدهم. وهذه قوى مدنيةٌ سودانيةٌ سارعت إلى التنديد بزيارة الوزير الإسرائيلي، وبتفرّد سلطات الانقلاب في قراراتٍ ليست من اختصاصها، "وتحاول قدر الإمكان الحصول على الدعم الخارجي حتى لو من الشيطان"، بحسب "تجمّع المهنيين". وهذا على شيءٍ من الصحة، فلم تنته الأزمة الحادّة في البلاد، والتي نجمَت خصوصا بعد انقلاب أكتوبر 2021 على حكومة عبدالله حمدوك، ولم ير السودانيون بعدُ وفاقا شاملا قد تحقّق قي بلدهم بعد توقيع الاتفاق السياسي الإطاري (المبدئي) بين مجلس السيادة وبعض القوى المدنية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
صحّ ما يكرّره نتنياهو، منذ الساعات الأولى لعودته إلى سدّة السلطة في إسرائيل، إن اتفاقيات تطبيعٍ مع دول عربية وإسلامية ستُعقد قريبا.. والاتفاقية مع السودان بروفة أولى لمتوالياتٍ مثلها لاحقا، وهذا هدفٌ أول في واشنطن، على ما استشعره خليل جهشان مع أنتوني بلينكن، وعلى ما تؤكّده وقائعُ لا تتوقف.