في أن نهاية الحرب تقترب
أمّا وقد صارت القناعة في الإدارة الأميركية بأن الحرب الإسرائيلية على غزّة يجب أن تنتهي، طالما أنها، بحسب بايدن وفريقِه، قد أضعفت حركة حماس التي لن تعود، في أيّ حالٍ، إلى الحكم في القطاع، ولن تستطيع أن تكرّر واقعة 7 أكتوبر، فذلك يُجيز تخمين أن عَدّاً تنازليّاً قد يبدأ في غضون أيامٍ باتجاه نهايةٍ ما لعدوان الإبادة الذي من الخطأ تسميتُه حرباً. وأن يتكفّل رئيس الولايات المتحدة، بشخصِه ومن رُواقٍ في البيت الأبيض، بإعلان تفاصيل ورقةٍ إسرائيليةٍ مطروحةٍ للتفاوض من أجل "هدناتٍ" بمراحل وتسليم حركة حماس أسرى وجثثاً لديها، فذلك يمثّل نوعاً من الانعطافة في الرؤية الأميركية إلى الحرب، من دعمٍ مطلقٍ لها ولاستمرارها، ورفض مشاريع قراراتٍ في مجلس الأمن دعت إلى وقفها، إلى ضرورة أن تنتهي، لإفراجٍ عن رهائن مُحتجزين، بينهم أميركيون (بحسب إشارته ذات الدلالة)، وليُعاد إعمار قطاع غزّة، ولغير أمرٍ قال عنه بايدن، وأيضاً لغير أمرٍ لم يقل عنه بعد. والخلاصة هنا أن الحرب، على ما صار الرئيس الأميركي ومعاونوه يروْن، استنفدَت نفسَها، ولم يعُد في الوُسع تحمّل أعبائها الإنسانية والأخلاقية، ناهيك عن أن صُداعاً تُحدثه في الولايات المتحدة نفسها، يجب أن يتوقّف في غضون حملاتٍ انتخابية تقترب، كما أنه لم يعُد جائزاً لنتنياهو وفريقه المضيّ فيها بعبثيّةٍ، وبلا أفقٍ سياسيٍّ أو تصوّرٍ لخواتيمها وليومها التالي، فضلاً عن الشعور بأن الجيش الإسرائيلي ومعه الاستخبارات فشلا في تحرير أيٍّ من الرهائن في ثمانية شهور، بل وفشلا في إنهاء قدرات المحاربين الفلسطينيين بالمطلق، فالمؤكّد أن البيت الأبيض عَرفَ بضربات المقاومة وكمائنها أخيراً من الشمال، من مخيّم جباليا وغيره، فضلاً عن رشقاتٍ صاروخيةٍ وصلت إلى تل أبيب.
ليس لأيٍّ منّا، نحن المعلّقين، أن نتحزّر الكيفيات التي ستمضي فيها جولة مفاوضاتٍ غير مباشرة جديدة، متوقّعة (مرتقبة على الأرجح) بين "حماس" وإسرائيل، في القاهرة أو الدوحة، بشأن مراحل تنفيذ "الصفقة" التي يتحمّس لها بايدن، وغطّى صيغتَها الإسرائيلية ببصماتِه وتفسيراته (على ما شرح عزمي بشارة). لنا أن نرتابَ ونتوقّع ألغاماً من نتنياهو لإرهاق المقاومة في محاولات ابتزازٍ في غير شأن. لنا أن نخمّن احتمالات الفشل بمقادير احتمالات النجاح. لنا أن نرجّح مناوراتٍ وألاعيب أميركية في غير تفصيلٍ هنا أو هناك. ولكننا، في أيّ حال، لا نُخطئ لو قلنا إن موعداً لنهاية حرب الإبادة يقترب، وإنْ بهُدنٍ على مراحل ثلاث أولاً، سيبقى نتنياهو على رفضِه تسميتها وقفاً لإطلاق النار. غير أنّنا، نحن المعلّقين، مطالبون بعدم استعجال حسابات النصر والهزيمة، وبالتريّث في رسم ملامح صور غزّة في مرحلة ما بعد الحرب، فالمعطياتُ التي تستجدّ إنما تتدحرج من ألف إلى ياء بحسب وقائع على الأرض وإجراءاتٍ عملية، وليس وفق تفاهماتٍ على أوراق وحسب.
ليس ضرباً في الرمل أن ينكتب هنا إن نتنياهو وقيادة جيش الاحتلال لم يعودا وحدَهما صاحبي القرار في استمرار الحرب، سيّما وأنها باتت حرباً مقصودةً لذاتها، يريدُها رئيس وزراء العدو، واليمين الفاشي معه، بمدىً مفتوح، وبدماء فلسطينية مُستباحة، وبلا تصوّرٍ محسومٍ لنواتجها المطلوبة، وبأوهامٍ تجعل الغزّيين في مدن القطاع وأريافه ومخيّماته المدمّرة في مهبّ بازارٍ من ثرثرات العصابة الحاكمة في تل أبيب، واجتهاد خبراء الاستخبارات الفاشلين، بالتوازي مع "خطط" يهندسها موظفّون رفيعون في الخارجية الأميركية. وذلك كلُّه، في غضون انكشافٍ عربيٍّ مشهود، يعلن عن نفسه بمقادير العجز المفضوحة أمام فداحة الصلافة الإسرائيلية المتوحّشة التي شاهدها المواطنون العرب ثمانية أشهر. وفي غضون استقالة المؤسّسة الفلسطينية الرسمية من المشهد، وتعاطي العالم معها باعتبارها غير ذات صفة، سيّما وأن الرئيس محمود عبّاس يستطيب في مؤتمر القمّة العربية في المنامة التصويب ضد "حماس"، وكأن هذا أولوية الأولويات لدى قيادةٍ مسؤولةٍ عن شعبٍ محتلٍّ يتعرّض لحرب إبادةٍ معلنةٍ أمام أنظار البشرية كلها.
لا بأس بمقدارٍ من التفاؤل بأن الحرب في غزّة ستبدأ خلال أيام عبورها إلى خواتيمها، وأن معركةً شديدة الشراسة يُفترض أن تبدأ، بشأن بناء الفلسطينيين أنفسهم بعد هذه المحنة المهولة، وبشأن حقّ أهل غزّة في أن يعدّوا قتلاهم بأناة، ثم يلتقطوا ما تبقّى من أنفاسهم، وبشأن بحثٍ مُضنٍ عن أفقٍ فلسطينيٍّ مختلف، من شديد الوجوب والضرورة أن يُخاض الكلام فيه وعنه بصراحةٍ أعلى ... لننتظر.