في أحوال الشاعرة
قرأت قبل أيّام منشوراً لكاتب عربي يقول فيه، ما معناه، إنّه يستغرب كيف يمكن لشاعرة أن تكون من ذوات الوزن الزائد، فالشاعرة يجب ألا تُفكِّر بغير الشِّعر، فالشِّعرُ معاناةٌ ومُكابَدةٌ، والمُكابَدةُ تتنافى مع الشهيَّة للطعام، وتتعارض معها. ما يعني أنّ الشاعرةَ ستبقى نحيلةً، ومصفرَّةَ الوجه، من فرط مُكابَداتها لكتابة قصيدتها. بقدر ما كان هذا المنشور مُستفِزَّاً لي لفرط ذكوريّته، ذلك أنّه ذكر الشاعرات تحديداً من دون أن يُعمِّم على جميع الشعراء (ذكوراً وإناثاً)، ويبدي رأياً في فهم عالم الشعر، وخصّ الشاعرات بالمنشور مبدياً ذكوريةً تحاول خلطَ رؤيته الجمالية للمرأة بالشعر، بقدر ما أضحكني وذكَّرني بالتنميط الذي وُضِعت به الشاعرات العربيات من مُثقَّفين عرب، ومن شعراءَ (فحولٍ) يعتقدون أنّهم مُؤهَّلون لإطلاق الأحكام على الشاعرات من منطقٍ أبويٍّ ذكوريٍّ متعالٍ، لاعتقادٍ راسخٍ لديهم بأنّهم الضلعُ الثقافيُّ الذي تخرج منه الشاعرات.
أحد شعراء سورية الحداثيِّين، من كُتّاب قصيدة النثر، كان يقول إنّه لا توجد امرأة شاعرة، فإن كانت شاعرةً فهي قد تخلَّت عن صفات الأنوثة، ولا توجد شاعرةٌ جميلةٌ أو تهتمُّ بمظهرها، ولا توجد شاعرةٌ يمكنها أن تهتمَّ ببيتها وبأناقته ونظافته. ولم يكن هذا الرأي مرسلاً، وليس في سبيل التهريج، بل كان يُردّده دائماً على مسامع الجميع، وقال ما يشبهه في حوارٍ صحافي أُجري معه لمطبوعة سورية خاصّة. والحال إنّ هذا لم يكن رأيه وحده، بل هو نظرةٌ عامَّةٌ نحو الشاعرة في مجتمعاتنا، لا يوجد مثيل لها في ما يخصّ الروائيات أو الساردات أو العاملات في مجال السينما والدراما والمسرح وباقي الفنون. وفي الأغلب، هذا الرأيَ مُستنبَطٌ من تاريخ العرب مع الشعر منذ الجاهلية وعصور الإسلام اللاحقة، فكان الشعر دائماً ذكوريّاً، أو هذا ما وصل إلينا منه في الأقلّ. وحين كانت توجد امرأةٌ تقرض الشعر كالخنساء، كان ينقل عنها ما يختصّ بأمر رثاء الذكور الخاصّين بها. وحدها ولّادة بنت المُستكفي خرقت هذه القاعدة، لسبب وحيد؛ مكانتها الاجتماعية، والسلطة التي منحتها لها تلك المكانة، وسجاح بنت الحارث، التي اتُّهمت بالجنون والكذب، وأُطلِقت عليها الصفات القبيحة كلّها، لأنّها ادَّعت النبوة.
ورغم الانفتاح الذي حدث مع وسائل التواصل الاجتماعي، وانكشاف حياة الشاعرات أمام الجميع، إلّا أنّ كُثراً ما زالوا يملكون الرأي ذاته النمطي عنهن، فالشاعرات لسن أنيقات، ولا يعتنين بجمالهن، ولسن "ستّات بيوت"، ولا يعتنين بالرجل الشريك الذي معهن، ولا يعرفن كيف يُقدِّمن الحُبّ والعاطفة، ولا يكترثن لشيء غير كتابتهن الشعرية. وللحقّ، تتمنّى كاتبة هذه السطور لو أنّ هذا حقيقي، ولو أنّ لا شيء إطلاقاً يشغل الشاعرة غير كتابة الشعر، لكنّ الشاعرةَ امرأةٌ أولاً، يُغويها ما يغوي باقي النساء في العالم كلّه. الشاعرة، إن أتيح لها، تُفتَن بالعطور الفاخرة و"الاكسسوارات" الفاخرة والملابس الأنيقة، ويُبهِجُ قلبها أن ينتبه شريكها إلى التفاصيل التي تُسعِدها، ويعنيها أن يفعلها لها، وأن تتبادل معه الدلال، تُحبُّ أن يهديها أحدٌ ما زهوراً بيضاء أو هديَّة ثمينة. الشاعرة تُحبُّ الهدايا الثمينة، مثل نساء الأرض كلّهم، تُحبّ أن تسمع كلام الغزل، حتّى وإن كانت في أول الستين مثلي حالياً.
تعشق الشاعرات شراء ملابس النوم السوداء المصنوعة من "الموسلين" و"الستان" والمكشوفة الظهر والذراعين. تُخبرني صديقاتي الشاعرات من أعمار مختلفة بهذا. تُحبُّ الشاعرة لون الشمس على جلدها، وتُحبُّ أثر الكُحل في عينيها، حينما تستيقظ بعد سهرة طويلة نالت فيها كثيراً من حظّ المتعة والفرح؛ معظم الشاعرات يحببن الطبخ، ويستمتعن بطقس الطبخ والمطبخ، وبرائحة التوابل، وتجريب وصفات مختلفة وتطبيقها وتقديمها لأصدقائهن ولمن يحببن. تُحبُّ الشاعرةُ التسوُّق، هذا الفعل الذي يقال إنّ الشاعرات يتعفَّفن عنه، تُحبُّ التفاصيل كلّها التي تفعلها الأنثى الطبيعية التي تتأمّل أنوثتها، وتشكر الحياة على هذه النعمة.
ما يفعله الشعر أنّه يساعدها على الشغف بتلك التفاصيل الأنثوية الأليفة كلّها، وهذا لا يمنع عنها كتابة الشعر، ولا يمنع كاتبته أيضاً أن تكون ممتلئةَ القوام، وذات بشرة نضرة. أما ذلك الذي يعتقد أنّه يملك الحقّ في تجريد الشاعرة ممّا سبق كلّه ليعترف بشاعريّتها، فليبحث عن مرجعيّته في ذلك قبل ادّعاء الحداثة.