فيلم هزّ عرش مصر
قبل أيام، شهد مهرجان الجونة السينمائي واقعة غريبة، أبطالها فنانون مصريون، آثروا الانسحاب من عرض أحد الأفلام احتجاجاً على "تشويه سمعة مصر". ومع أن فنانين مصريين كثيرين يتنافسون على التطبيل لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولا يتوانون عن كيل المدائح لما يسمّونها "إنجازات" تحققت في عهده، إلا أن مكمن الغرابة هو في سبب جرح "المشاعر القومية لهؤلاء الفنانين"، ففيلم "ريش" الذي فاز بجائزة النقاد في مهرجان كان السينمائي يصوّر عائلة تعيش في فقر مدقع، الأمر الذي أثار غضب هؤلاء الفنانين، وانتقل الغضب إلى وسائل الإعلام والسياسيين. وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحدّد إطاراً مكانياً لأحداثه، أي إنه لم يقل إن الأحداث تجري في مصر، إلا أن هؤلاء الفنانين وغيرهم من مهاجمي الفيلم أدركوا أن مثل هذه المشاهد التي يصوّرها الفيلم لا يمكن أن تكون في غير مصر.
يبدو أنه بالنسبة إلى هؤلاء لا وجود لفقراء في مصر، على الرغم من كل التقارير الدولية والاقتصادية التي تقول عكس ذلك، فالتعليمات الأمنية الموزّعة على عدد من النجوم والسياسيين والإعلاميين الذين يدورون في فلك النظام المصري تنص على أن التركيز يجب أن يكون فقط على "الإنجازات" التي حُققت، والابتعاد عن كل المشاهد التي "تشوّه سمعة مصر"، فسياسة هذا النظام ترى أن طمر الفقراء وإخراجهم من دائرة الضوء هو الحل الأمثل لمشكلة الفقر.
اللافت في الأمر الاحتفاء الذي شهدته مصر، والوسط الفني تحديداً، بالفيلم لدى نيله جائزة النقاد في "كان"، إذ كان من الواضح أن أحداً لم يشاهد هذا الفيلم في حينه، قبل التهليل لإنجازه ولم يقرأ عنه حتى. والأطرف أن الحكومة المصرية كانت قد أشادت بالفيلم وكرّمت مخرجه وأبطاله في احتفالية بالمركز القومي للسينما، وقالت وزيرة الثقافة، إيناس عبد الدايم، في ذلك الوقت، إن الفيلم إنجاز تاريخي مصري وخطوة جديدة على طريق استعادة الريادة المصرية في مجال السينما. لكن من الواضح أيضاً أن هذه الوزيرة لم تكلف نفسها عناء الاطلاع على الفيلم، أو أنه لم يدغدغ مشاعرها القومية.
ولولا اختيار الفيلم للعرض في مهرجان الجونة، لما كان أحدٌ من هؤلاء مهتماً بالاطلاع على هذه التجربة الفنية التي حازت جائزة عالمية. ومن المؤكّد اليوم أنه، بعد هذه الحملة الممنهجة التي شنت على الفيلم، فإن فرصة عرضه العام للجمهور باتت معدومة، والأمر نفسه بالنسبة إلى الممثلين الذين اختارهم المخرج عمر الزهيري من الأحياء الشعبية، فإن فرصتهم للاستمرار في المجال الفني الذي أحبوه، خصوصاً بالنسبة للبطلة التي اشتهرت على وسائل التواصل الاجتماعي دميانة نصر أو أم ماريو، باتت مستحيلة.
ما تشهده مصر اليوم من توجيه إلى القطاعات السينمائية والتلفزيونية والإعلامية من النظام غير مسبوق، حتى في عصر حسني مبارك، ربما كان موجوداً بطريقة ما في عهد جمال عبد الناصر الذي استغل السينما والموسيقى لترويج "ثورة الضباط الأحرار" ضد الملكية. لكن حتى في عهد مبارك، كانت السينما تسلّط الأضواء على مشكلات اجتماعية كثيرة، وانتشرت في ذلك الحين أفلام عن مشكلة العشوائيات التي لا تزال قائمة في مصر، حتى لو حاول النظام إخراجها من الدائرة الإعلامية. هذا ما نشهده عملياً في عموم الإنتاج السينمائي الجديد في مصر، والذي يدور كله، أو الغالبية العظمى منه، حول العائلات المرفّهة والشخصيات الناجحة والثرية، في تصدير صورةٍ أبعد ما تكون عن حقيقة الأوضاع في مصر، أو تكريس للطبقية الموجودة في مصر، والتي لم يخجل إعلاميون من الحديث عنها في إطار انتقادهم الفيلم. غير أن تسرّب هذا الفيلم إلى مهرجان الجونة هزّ عرش النظام وضرب استراتيجيته، ما استدعى هذه الحملة الفنية والإعلامية والأمنية عليه، والتي ستليها حملة لـ"تحسين الصورة" التي شوّهها "ريش".