فيصل الياسري... و"حمّام الهنا"
عَبَر نبأ وفاة المخرج العراقي فيصل الياسري، عن 89 عاما، الأسبوع الماضي، من دون اهتمامٍ مستحقّ في الصحافة العربية بهذا الفنان الذي لم يتزيّد بعضُ من نعوه، ومنهم وزير الثقافة العراقي حسن ناظم، في وصفه أيقونةً. ولئن يُعرَّف الراحل، الكبير حقّا، عراقيا، وهو الذي تُوفي في عمّان، فإن من بين كثيرٍ يلفت في مساره المهني، تلفزيونيا وسينمائيا ومسرحيا (له أيضا رواية ومجموعة قصصية مبكّرتان) أن مقاطع مهمّة (وربما الأهم) في تجربته سوريةٌ وخليجيةٌ، بل أخرج أيضا في 1988 فيلما عراقيا (بابل يا حبيبتي) بمشاركة مصرية (بطولة يحيى الفخراني). ومن أعماله الدرامية المسلسل العربي المشترك "المرايا" (1984)، من بطولة صلاح ذو الفقار وهند كامل ورشيد عسّاف. ولمّا كان الياسري عرّاب برنامج الأطفال الشهير، والأجمل ربما، "افتح يا سمسم"، وقد أخرج الجزء الرابع منه، وكان من مخرجي أجزاء أخرى (573 حلقة)، فإن هذا يدفع إلى وجوب تقديرٍ كبيرٍ للرجل، بالنظر إلى مكانة هذا العمل الباقي في الذاكرة التلفزيونية العربية، وقيمته التربوية والتعليمية، وما تحقّق فيه من تنويعاتٍ جماليةٍ وأدائيةٍ جعلته برنامجا ما زال محبّبا للصغار والكبار. ومعلومٌ أنه المنجز الأهم لمؤسّسة الإنتاج البرامجي لدول الخليج العربية المشترك (هل ما زالت قائمة؟). ولم يُجانب الحقيقة من قالوا إن فيصل الياسري كان مخرجا سوريا عراقيا (سوراقيّا، في نحتٍ جائز)، فمن بين أفلامه الروائية العشرة (بحسبةٍ متعجّلةٍ) خمسةٌ سورية، وهو الذي عمل سنواتٍ، في شبابه الأول، في التلفزيون السوري الذي أنتج في 1968 أول مسلسلٍ من إخراجه، وهو العَمل الكوميدي الذي يعصى على النسيان "حمّام الهنا"، من بطولة الثنائي الفني الناهض في تلك الغضون، دريد لحام ونهاد قلعي.
لعلّها من مفارقاتٍ ذات دلالة أن واحدا من أهم أعمال الدراما السورية (والعربية) في بداياتها، بل ومن أجملها، سوريٌّ تدور معظم وقائعه في حمّام دمشقي، لهجتُه شامية، من إخراج عراقي (أخرج خلدون المالح الثلاث الأخيرة من حلقاته الـ13). يُخبرنا من أرّخوا لهذا العمل ومرحلته ومسارات نجومه أن كاتبه نهاد قلعي لم يتخيّل النجاح الذي تحقّق له، وهو المسلسل الثاني الذي جمَعه مع شريكه دريد لحام بعد "مقالب غوار" (إخراج خلدون المالح، 1966). ويحدُث، إلى سنواتٍ قريبة، أن تعيد تلفزاتٌ عربيةٌ، عرض "حمّام الهنا" الذي مضى على إنتاجه (بالأبيض والأسود) 54 عاما، ويلقى إقبالا على المشاهدة، سيما من المخضرمين الذين تقيم عروض هذا المسلسل في السبعينيات في ذاكرتهم، ربما حنينا إلى زمنه، وإلى البساطة الضافية في إنتاجه، فضلا عن القصة الشائقة (مقتبسة من روايةٍ روسية)، فهو يقوم على اكتشاف حسني البورظان (شخصية رئيسية اشتُهر بأدائها نهاد قلعي) أن جدّه المتوفّى خبأ ميراثه في أحد كراسي غرفة الضيوف، لكن صديقه غوّار الطوشة (دريد لحام) كان قد وزّع هذه الكراسي الاثني عشر، فيجري البحث في كل حلقة عنها، ويُعثر في كل حلقة على كرسي، إلى أن يصلوا، في الحلقة الثانية عشرة، على الكرسي الذي فيه الإرث، وهو ليراتٌ تركيةٌ كانت قد فقدت قيمتها بسبب الحرب، فتكون خيبة الأمل.
يُروى أن رئيس الوزراء السوري، في حينه، يوسف زعيّن، اضطرّ إلى تغيير موعد الاجتماع الأسبوعي للحكومة، لكثرة تغيّب الوزراء عنه، ولمّا سألهم عن السبب، أجابوه بأن الموعد هو وقت عرض "حمّام الهنا" على التلفزيون. .. ليس من سذاجةٍ في الأمر، وإنما هي قدرة هذا المسلسل، بأدواته الإخراجية الفقيرة، مقارنةً بالإمكانات الهائلة المتاحة في التصوير والإخراج حاليا، على شدّ جمهورٍ عريض، سيما وأن الحدّوتة بما تشتمل عليه من بحثٍ عن كرسيٍّ مفقود، وعن ثروةٍ منتظرة، تغوي بالمتابعة لانتظار النهاية، والتي كان نابها في ذلك العمل الدرامي الفكاهي المبكّر عربيا أنها لم تكن سعيدة، لتنطق بجملةٍ من مرسلاتٍ وأفكار (هل نقول الحثّ على العمل والإنجاز بدل انتظار الحظ؟). وقد أمكن لفيصل الياسري، إدارة فريقٍ من الممثلين لكلٍّ منهم لونُه و"كراكتره" وكفاءته الظاهرة، فثمّة رفيق السبيعي وزياد مولوي (وغيرهما) مع دريد ونهاد.
يكتُب الباحث في ذاكرة الدراما والسينما السوريتين، محمد منصور، أن تقنية المونتاج لم تكن قد دخلت في زمن إنجاز "حمّام الهنا"، فكانت الحلقة التلفزيونية تصوّر كاملةً بمشاهدها المتتابعة، وأي خطأ يُجبِر الفنانين على إعادة تصوير الحلقة منذ المشهد الأول. .. كان عملا تأسيسيا، مَرحا، محبّبا، جميلا على شاشات تلفزات بيوتنا إبّان طفولتنا، وما زال. رحم الله نهاد قلعي وفيصل الياسري.