فن التأقلم عربياً

25 نوفمبر 2020
+ الخط -

مع عودة وجوه إدارة أوباما إلى الحكم في واشنطن مطلع العام المقبل، يحاول العالم التأقلم مع مرحلة جديدة في السياسة الأميركية، بعد حالة الارتباك والفوضى التي خلفتها إدارة دونالد ترامب. وعلى الرغم مما أصاب هيبتها من أضرار، وانكشاف مواطن ضعفٍ بنيويةٍ خطيرة (توترات وانقسامات عرقية وثقافية وإيديولوجية، وترهّل مؤسساتي كشف عنه التعاطي مع وباء كورونا)، إلا أن الولايات المتحدة تثبت من جديد أنها الفاعل الأكثر أهمية في السياسة الدولية، وأنها المتغير المستقل فيها بامتياز. لذلك، وبمقدار ما أدّى وصول ترامب إلى الحكم عام 2017، إلى تغييرات كبيرة في بنية النظام الدولي (لجهة الاصطفافات والتحالفات التي أنتجها) يوشك خروجه منها على إحداث تغييراتٍ لا تقل أهمية، ما يفسّر حالة السيولة التي يشهدها العالم استعدادا لذلك.
وعلى الرغم من أن اتجاهات الفاعل الأميركي وسلوكه عالمية التأثير، إلا أن منطقتنا العربية تقف عاريةً أمامها، لأسباب ثلاثة رئيسة: أولاً، هشاشة نظم الحكم العربية وفقدانها شرعية التمثيل والقيادة، فهي تعيش حالة غربةٍ عن شعوبها، وتعاني من الترهّل والفساد، وتعتمد على وسائل القهر أكثر من اعتمادها على شرعية الإنجاز، وينحصر همّها في التمسّك بالسلطة، حتى ولو على أطلال. ينتج عن ذلك ثانيا، أن خوف هذه الأنظمة من شعوبها وانعدام ثقتها بها لا يقلان عن خوفها من التهديدات الخارجية التي تواجهها. لذلك تجدها تعتمد، بشكل مستمر، على الحماية الأجنبية المباشرة، أو من خلال اتفاقات وتحالفات، أو حتى توظيف مرتزقة لحمايتها، خصوصا مع انتشار شركات الحماية الأمنية الخاصة. ثالثا، على الرغم من أن مناطق أخرى في العالم تشهد حروبا ونزاعات، الا أن منطقتنا تتميز باحتضانها أكبر عدد من الصراعات وأطولها، وتواجه انقسامات واقتتالا داخل الدول وفيما بينها، على خلفيات جيوسياسية وإثنية وطائفية وقبلية وفكرية - أيديولوجية (إسلامي - علماني مثلا)، فضلا عن وجود آخر سلطة استعمارية في العالم، ممثلة في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين وغيرها. ومع أن منطقتنا مسرح لأكثر صراعات العالم دموية وأطولها عمرا (سورية، العراق، اليمن، ليبيا وغيرها)، إلا أننا نفتقد، مع ذلك، آلياتٍ لمنع النزاعات أو حلها في حال اندلعت. فوق ذلك كله، تفتقد نخب الحكم العربية ثقافة الاختلاف، والدبلوماسية، وتميل إلى استخدام القوة (عندما تمتلك فائضا منها) في حل المشكلات والخلافات.
في بيئةٍ كهذه، يسودها الشعور بالتهديد الدائم من الداخل والخارج، تغدو نظم الحكم العربية أكثر تأثرا بالمتغيرات الخارجية، وهل هناك متغير أكثر أهميةً من المتغير الأميركي؟ وينعكس القلق لدى نظم الحكم العربية من توجهات إدارة بايدن، خصوصا مع اتضاح صورة التعيينات الرئيسة في إدارته، في سياقين كبيرين: الأول، متصل باهتمام أكبر قد تبديه واشنطن بالقضايا المرتبطة بحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم يُعرف عنها في علاقتها، خصوصا بالمنطقة العربية، اهتمام جدّي بهذا الجانب. دع جانبا مسألة رهن علاقاتها ومصالحها مع نظم المنطقة بتحسين هذه لسجلها في مجال حقوق الإنسان، إلا أن الأكيد أن فترة العمى الأميركي الكامل عن هذه الانتهاكات قد انتهت، وأن جريمة مثل التي تعرّض لها الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، لن تكون قابلة للتكرار، أو على الأقل الصمت الأميركي لن يكون قابلا للتكرار. طبيعة نظم الحكم العربية وهشاشتها تجعلها عاجزةً عن تحمل حتى انتقادات لفظية لن تستطيع إدارة بايدن تجنّبها. هذا يفسّر جزئيا سعي نظم عربية عديدة إلى التطبيع مع إسرائيل، باعتبار أن مساعدتها وخبرتها بكواليس واشنطن أساسية في التخفيف من حدّة الانتقادات الأميركية، خصوصا أن فزّاعة "داعش" والإسلاميين ما زالت قابلة للاستخدام، وإدارة بايدن تخشاها أكثر من أي شيء آخر. السياق الآخر الذي تتخوّف منه نظم منطقة الخليج خصوصا هو توجهات إدارة بايدن نحو إيران، واحتمال عودتها إلى الاتفاق النووي، وتحوله إلى مقدّمة لعلاقة أكثر دفئا بين واشنطن وطهران. وعلى الرغم من أنه لا تجوز المبالغة بهذا الشأن أيضا، خصوصا أن النظام الإيراني يقتات، في بقائه والتحكم برقبة شعبه، على عداء أميركا، كما تعتمد النظم العربية في بقائها والسيطرة على شعوبها على التحالف مع واشنطن، إلا أن ذلك سيمثل أحد أهم دوافع الاصطفافات الجديدة التي تتبلور في المنطقة.