فلسطين والواقع العالمي الجديد
جاءت مرافعات الدول أمام محكمة العدل الدولية، في قضية مناقشة التبعات القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتؤكّد واقعاً جديداً تولّد بعد انطلاق العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة. واقع يشير بوضوح إلى تشكّل شبه إجماع عالمي على خرق إسرائيل القانون الدولي. بالتأكيد، لا يشمل هذا الإجماع الولايات المتحدة وبريطانيا، ودولٍ غربيةٍ أخرى باتت قليلة نسبياً، إذ بدأت أصوات انتقاد دولة الاحتلال وممارساتها تتصاعد سياسياً في دول أوروبية كثيرة، ومن وزراء ورؤساء حكومات، وهو ما لم يكن قائماً في الفترة الأولى اللاحقة لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر.
شاركت في جلسات المحكمة، المستمرّة حتى يوم غد الاثنين، 55 دولة ومنظمّة دولية، وهو رقم "تاريخي" قياساً بأيٍّ من القضايا الأخرى التي نظرت فيها محكمة العدل سابقاً. معظم الكلمات التي ألقاها ممثلو الدول، وبعضُها دولٌ غربية، مثلت إدانة للممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. وليس الحديث هنا عن الإبادة الجماعية الحاصلة اليوم في قطاع غزّة، فهذه قضية أخرى ما زالت جلساتها غير معلومة التاريخ، بل الحديث عما أحدثته دولة الاحتلال من تغييرات جغرافية وديمغرافية خلال سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، والذي ساهم في تعقيد العملية السياسية وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
وفي مقابل كل الكلمات التي حمّلت إسرائيل مسؤولية ما وصلت إليه الحال في الأراضي الفلسطينية، خرجت الولايات المتحدة وبريطانيا بمواقف مغايرة، إذ استمرّت واشنطن في دفاعها عن دولة الاحتلال التي غابت عن الجلسات، معتبرةً أن المحكمة تعيق ما تسعى إليه الولايات المتحدة حالياً من استئناف للعملية السياسية، وصولاً إلى قيام دولة فلسطينية، وهو ما واكبتها فيه لندن، وأجمعت الاثنتان على أن القضية سياسية، ولا يمكن أن يكون هناك دور للمحكمة في حلّها.
يحاول الطرفان، وأمام محفلٍ دوليٍّ كهذا، وبهذا الحضور والإجماع على إدانة إسرائيل، بيع الوهم مجدداً للعالم، كما حدث قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وإظهار أن هناك حلولاً ممكنة لهذه القضية، وهو ما نجحت فيه واشنطن خلال مرحلة ما، حين استضافت مؤتمراً تلو الآخر وجولة مفاوضاتٍ تلو الأخرى، أسفرت كلها عن تقزّم الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية وتقلّصه، إضافة إلى تآكل المساحة التي كان من الممكن أن تقوم عليها هذه القضية. وللأسف، فإن أطرافاً فلسطينية، عن حسن أو سوء نية، لعبت دوراً في هذه العملية، وكانت تتلقف المبادرات الواهية التي كانت تطلقها الإدارات الأميركية المتعاقبة، على أنها مفتاح للحلّ الذي لم يأت.
والمفارقة أن كل ما تروّجه الولايات المتحدة اليوم هو من طرفٍ واحد، وغير مقبول إسرائيلياً، بل على العكس، فإن دولة الاحتلال ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يفعلان عكسه، سواء بالتصريح أو بالواقع على الأرض. "اليوم التالي" لما بعد الحرب على غزّة واحدٌ من الأمثلة، فنتنياهو مصرٌّ على البقاء الإسرائيلي في القطاع، أي عودة الاحتلال، وقدّم خطّة مكتوبة بذلك، وهو ما من المفترض أن الولايات المتحدة تعارضه، لكن المعارضة لا تخرُج عن سياق التصريح بأنه "يجب أن يكون للفلسطينيين صوتٌ في مرحلة ما بعد الحرب"، بحسب مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي.
في كل الأحوال، لا يمكن لموقفي الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتيْن للمناسبة تشهدان أكبر الاحتجاجات المناهضة للحرب، تغيير الواقع الجديد الذي ظهر في محكمة العدل الدولية والإجماع العالمي حول القضية الفلسطينية، الذي لا بد من إيجاد طريقةٍ ما لاستثماره بعيداً عن فيتوهات مجلس الأمن.