فلتتوقّف الحياة... لم لا؟
مسألة بديهية جدّا أن يفترض المنكوب بمصيبة ما أنه يحظى بتعاطف الآخرين وتضامنهم، ولو بكلمةٍ تبرّد قلبه الملتاع، وتُشعره بأنه ليس وحيدا، وبأن هناك من يحسّ بألمه ويتوجّع من أجله لأن في ذلك بعض العزاء، ما يخفّف من أحزانه قليلا، وقد شهدنا في عواصم العالم قاطبة مختلف أشكال التضامن مع مأساة أهلنا في غزّة، وهم يتعرّضون لحرب إبادة وتطهير عرقي جائر حصد الأرواح والممتلكات، وما زال ماضيا في حرق الأخضر واليابس، بعد أن سقطت إلى الأبد كذبة الديمقراطية والعلمانية التي ادعتها إسرائيل في محاولة تجميل بائسة لن تنطلي على أحد. وقد كشف ذلك الكيان المجرم عن وجهه الاستعماري الاستيطاني العنصري القبيح، قاتل الأطفال، وقد أباح لهم "يهوه"، ربّ الجنود الحقود ذلك، بل وباركه، وحثّ عليه. وعبرت وسائل إعلام الكيان عن الحقد والكراهية والغلّ الأسود تجاه كل ما هو فلسطيني، وتفاخرت بالمذابح التي اقترفها باعتبارها إنجازات كبرى. وقد نالت من شعب أعزل متروك، بتواطؤ قوى عظمى، إلى مصيره المرعب.
والحقّ أن شعوب العالم في كل بقعة عبّرت عن تنديدها بالفظائع المرتكبة من دون أن تتمكّن من ثني الجيش المجرم عن التوقف في هدنةٍ يلتقط فيه الغزّيون أنفاسهم، كما خرج كثيرون من مشاهير العالم، من فنانين وكتّاب وإعلاميين ومؤثّرين وصنّاع محتوى، في فيديوهاتٍ تعبر عن مواقفهم الشجاعة، في رفض تلك الوحشية التي بلغت أوج أشكال الإجرام والتنكيل. ومن هؤلاء الفنان المصري الكوميدي محمد سلام، الذي اعتذر عن المشاركة في عرض مسرحي في الرياض، لأن ضميره الحي أبى عليه إضحاك الجمهور وتسليتهم رقصا وغناء، فيما أطفال غزّة يُذبحون أمام الكاميرات في بثّ حي ومباشر. وقد خسر الرجل على المستوى المادي كثيرا، لكنه كسب احترامه ذاته ومحبة الشارع العربي وتقديره، غير أن فئة قليلة مؤسفة لا تمثل سوى نفسها شنّت عليه هجوما عنيفا قذرا مشبوها، متهمة إياه بالمزايدة واستجلاب "اللايكات"، في محاولة بائسة منهم للمداراة على تخاذلهم وجبنهم وتنكّرهم المفضوح لقضايا أمتهم.
وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي ببعض النماذج الصفيقة ممن يعيشون في "اللالا ند"، يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وبتجاهل تام للمجزرة الدموية في الجوار، ومنهم من ينشر مقتطفات من حفل زفافه، حيث يتراقص المدعوون وتلقي العروس باقة ورد نحو فتياتٍ متأنّقاتٍ وشبّانٍ يحملون العريس على أكفّهم على وقع الموسيقى الصاخبة، غافلين عن الشهداء غير المحمولين على الأكتاف، إذ لم يتبقّ منهم سوى أشلاء تُزجّ في أكياس بيضاء مدوّن عليها اسم يمكّن ذويه من دفنه، حال وصول الأكفان!
وهناك من ينشر صورته على بوابة المطار، شاهرا جواز سفره، غير قادر على تمالك نفسه من فرط السعادة، لأنه مسافر يومين ماشالله (!)... وفي ظل الخربطة الملموسة جدا منذ بدء العدوان في "فيسبوك"، تطالعك أخبار الفنانه الفلانية التي خسرت عشرين كيلو من وزنها، والفنانه العلانية بأجمل طلّة طبيعية، كما عبّر كثيرون من ناشطي الموقع عن هلعهم، لأن منشوراتهم لم تعد مشاهدة كالسابق، يا للهول (ريتها أكبر مصايبكم).
ندرك عجزنا، أفرادا، في مواجهة هذه المقتلة، لكن هذا لن يمنعنا من التعبير عن غضبنا وتضامننا مع أهلنا، ومن يسألنا مستهجنا: هل تريدون أن تتوقف الحياة إذا؟... نعم، هذا ما نريده بالضبط، فلتتوقف الحياه إلى حين، لم لا؟ خجلا على الأقل.