فكرة الترانسفير والذهن السياسي الإسرائيلي
في كل مناسبة يجري فيها كلام حول الترانسفير، أرى وجوب استعادة كتاب "تصحيح خطأ" (2000) للمؤرّخ الإسرائيلي، بيني موريس، والذي يضم مجموعة من المقالات/ الدراسات التي تتناول جوانب مختلفة لمنظومة العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين بين الأعوام 1936- 1956. ومن الأحداث والقضايا التي يتعرّض لها بالبحث والتشريح يمكن ذكر ما يلي: عمليات الترحيل ضد فلسطينيي المجدل إلى قطاع غزّة في 1950، ونشاطات يوسف نحماني، من منظمة هشومير والكيرن كييمت، خلال 1948، وكيفية تعاطي الصحافة الإسرائيلية مع مذبحة قبية في 1953، وسياسة التشريد حيال الجماهير الفلسطينية الباقية في الجليل خلال "عملية حيرام" في 1948. وهذا الكتاب، بالإضافة إلى كتب أخرى لموريس، في طليعتها كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947-1949" (صدر بالإنكليزية عن منشورات كمبريدج في 1988)، أهلته لأن يُدرج في ما عُرف باسم "'تيار المؤرّخين الجدد".
والخطأ الذي يصحّحه موريس هنا أنه، في كتابه عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لم يُعر الأهمية الكافية لنزعة الترانسفير لدى القادة الصهاينة في تفسير ما حدث فعلًا في فلسطين عام 1948، ومثل هذه الأهمية، مع ضرورة اعتبار توصيفه لها بأنها كافية نسبيًا، متضمّنة في هذا الكتاب. بل إنه يخوض سجالًا مع مؤرّخين إسرائيليين زعموا، في كل ما كتبوه، أن القادة الصهاينة رفضوا فكرة الترحيل كليًا، مؤكّدًا أن هناك جبالًا من البراهين التي تثبت العكس. وإلى ذلك، يضيف أنه كان منطقيًا لهؤلاء القادة أن يؤيّدوا الترحيل، فمن المنظور الصهيوني قدّم هذا الترحيل "الحلّ الطبيعي" الأسهل لـ"المشكلة العربية".
ومما كتبه في هذا الصدد، في سياق آخر غير الكتاب: "... صحيح أن معالجتي، في كتاب ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لما سبق 1948، من تفكير ترحيلي بين القادة الصهاينة كانت سطحية ومحدودة، ذلك أن الموضوع يستلزم بحثًا طويلًا يغطّي الفترة من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى 1947، لتحديد أهمية فكرة الترحيل في تطوّر الفكر الصهيوني عبر مراحل متعدّدة. وكتاب "ولادة مشكلة اللاجئين" لم يجر مثل هذا البحث، لأنه لم يكن موضوع الكتاب بصورة أساسية. وربما أكون أخطأت في عدم إعطاء الأهمية الكافية لنزعة الترانسفير لدى الصهاينة في تفسير ما حدث فعلًا في فلسطين عام 1948".
لا بُدّ من الإشارة إلى أن موريس لم يخرج، في أبحاثه التي صحّح فيها أخطاء اعترف بارتكابها، بنتيجة حاسمة مؤدّاها أن ترحيل الفلسطينيين في 1948 تمّ نتيجة خطة مسبقة، واكتفى برؤية أن الرابط بين الفكرة وتنفيذها في الواقع فعلًا لا يردّ على تخطيط مسبق بقدر ما يردّ على ما يسميها "حالة ذهنية" قبلت الترحيل حلًا مشروعًا. وما إن بدأ ذلك الترانسفير طوعًا، في قراءته، في أواخر 1947 ومطلع 1948، حتى كانت القيادة الصهيونية، بتوجيه من بن غوريون، مستعدّة للمضي بالعملية ومستعينة بعمليات طرد أحيانًا. فتحوّل الزحف الأولي الخفيف للاجئين إلى مدّ من الطوفان خلال الفترة إبريل/ نيسان – يوليو/ تموز 1948، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
واضح أن موريس يفارق ما أثبته مؤرّخون آخرون (نور الدين مصالحة ونورمان فنكلشتين وسواهما) أعطوا وزنًا أكبر كثيرًا لـ"فكرة الترحيل" خلال العقد الذي سبق 1948، بالنسبة إلى ما حدث فعلًا في سياق تلك الحرب، ورأوا أن الرابط بين الفكرة والتنفيذ يردّ على وجود تصميم مسبق.
على أي حال، يضعنا ما يورده في كتابه هذا، من حجج وبراهين، أمام حقيقة لا لبس فيها، أن العودة إلى السياق الإسرائيلي- الصهيوني، المرتبط تحديدًا بمسألة الترانسفير، سرعان ما تشي باستحكام هذه الفكرة الجهنمية السوداء في أساس التفكير السياسي الرسمي الإسرائيلي، المؤدلج بالصهيونية. وإن مجرّد هذا يُعدّ مدخلًا لملامسة المؤثرات النظرية المحتملة التي تفضي، بدورها، نحو التقاط صيغة البنية الإسرائيلية بالمعطى التاريخي، أكثر مما هي منجزة في صيغتها السياسية الراهنة.